الطلاقة اللغوية في الخطابة والمناظرة
عرف العرب فن المناظرة في القرن الهجري الثاني، وهي أحد الفنون النثرية المؤثرة في الحراك الفكري والثقافي والأدبي، تنفرد بمزيةِ أنها تعتمد على المهارات العقلية كالقياس والتحليل والاستنتاج والربط المنطقي والتدافع الكلامي، مع إعمال الدلالات وعرض البراهين والحجج الدامغات.
يتأتى ذلك من خلال عمليتين متلازمتين؛ البناء والهدم، فالمتكلم يبني حججه المبرهنة على صحة موقفه متوسلًا بالتدليل والتعليل والتأكيد، وفي الوقت ذاته يفنّد حجج خصمه ويوهن من قدرها، وكلما كان القاموس اللغوي للمتحدث أوسع كانت الأفكار التي تعتمل في صدره أقرب للوصول للخصم وللجمهور؛ فيستحوذ بها على ألباب السامعين وعقول النابهين.
قد تكون المناظرة سجالًا بين فردين مثل مناظرة سيبويه والكسائي، ومناظرة أبي سعيد السيرافي النحوي ومتّى بن يونس المنطقي، ومناظرة طه حسين ورئيف خوري، وتبقى مناظرة أبراهام لينكولن وستيفن دوغلاس، أشهر أمثلة المناظرة الفردية، وقد تكون بين فريقين.
في صناعة الكلام، تمثل اللغة الرصيد الرئيس للشخص، سواء أكان خطيبًا أو متناظرًا، إذ إن الكلمات وسيلته لنقل الفكرة بشكلٍ لفظي، ويتعين على المرء الحرص على امتلاك قاموسٍ لغويٍ ثريٍ ومتجدد، وكلما كان شره البحث في قواميس اللغة يستخرج من دررها ما يتقوى به على ما يقدمه، اشرأبت له الأعناق والتمسته الأسماع كما تلتمس الظِمَاءُ القراحَ في كل بقعة.
وإن امتلك المتحدث من الأفكار ما لا يحصى لكن الكلمات لم تسعفه في تسويق بضاعة عقله؛ فهو في الناس أعيا من باقل وأحمق من هبنَّقة، على الأقل في نظر العوام، وقد ساعدت الطلاقة اللغوية المعتزلة في التربع على عرش المناظرات مدة لا بأس بها، فالعباسيون أدخلوا ثقافة المناظرة للحياة العربية، وكان مجلس المهدي ميدانًا لتحقيق مسائل يتجادل فيها العامة والخاصة، ثم رمى عن قوسه هارون الرشيد لدرجة أن يحيى بن خالد البرمكي خصصَ مجلسًا للمناظرات يجتمع في هذا المجلس المتكلمون وغيرهم، وحضر بنفسه مناظرة سيبويه والكسائي، وكان لحضوره تأثير في نتيجتها.
كل شخص في حاجة ضرورية للطلاقة اللغوية وتداعي الأفكار والألفاظ، وتتأتَّى تلك الحاجة في صور شتى لنتواصلَ بفاعلية أكبر ولنجعل من حياتنا واقعًا أفضل
والطلاقة اللغوية من بين أسباب قوة المعتزلة، إذ أفردوا للعقل سلطانًا لا يعادله سلطان في تناول المسائل المطروحة للنقاش، واعتمدوا على الحجج المنطقية وقدّموا القياسَ بُغيَّة الوصولِ لنتائجهم المرجوة، وردُّوا على بعض فلاسفة اليونان واشتقوا لهم آراءً جديدة يدعمها العقل، وكانت لهم صولاتٌ وجولاتٌ في مضمار البحث والمناظرة محللين مستنبطين كأروعِ ما يكون التحليل والاستنباط، وكان ذلك كله بتطويع اللغة لإيصالِ أفكارهم.
لولا قوة القاموس اللغوي ما تمكّن أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزَّال من المناظرة، ولكان في صفوف المشاهدين أو المتابعين، لكنه لم يتخاذل أمام الراء، فتحدث كالسيل الهادر وبالرغم من لثغته، ومدحه بشار بن برد بقوله (تكلَفوا القول والأقوامُ قد حفلوا/ وحبَّروا خطبًا ناهيك من خطب/ فقام مرتجلًا تغلي بداهتُه/ كمِرجل القينِ لمَّا حُفَّ باللهبِ/ وجانَبَ الراء لم يشعر به أحدٌ/ قبل التصفّح والإغراق في الطلب).
مثال آخر نسوقه بخصوص الزاد اللغوي، في بعض الأيام أقبل إبراهيم بن سيّار النظَّامُ -وهو صبي- مع والده إلى الخليل بن أحمدٍ الفراهيدي؛ فقال والدُ النظَّامِ: يا أبا عبد الرحمن! لقد جئتُك بولدي هذا لينهلَ من غزيرِ علمِكَ وواسِعِ فضْلِك؛ فقال الخليل يمتحنه، وفي يده قِدْحُ زجاج: يا بني! صِف لي هذه الزجاجة! فقال النظَّامُ: أبمدحٍ أم بذّمٍ؟ قال الخليلُ: بمدحٍ، قال "نعم! تُريِكَ القذى، ولا تقبلُ الأذى، ولا تسترُ ما وراءَها"، قال الخليل: فذُّمَهَا! قال "سريعٌ كسرُها، بطيءٌ جبْرُها".
قال الخليل: فصِفْ لي هذه النخلة، وأومأ إلى نخلةٍ في دارِه؛ فقال: أبمدْحٍ أم بذّم؟ قال الخليل: بمدحٍ؛ فقال "هي حلوٌ مُجتناها، باسِقٌ منتهاها، فاخِرٌ أعلاها"، قال الخليل: فذُّمَهَا! قال "هي صعبةُ المرتقى، بعيدةُ المجتنى، محفوفةٌ بالأذى"؛ فقال له الخليل: نحنُ إلى التعلُّمِ منكَ أحوج!
وهذا من الطلاقة اللغوية والبلاغة اللتين امتاز بهما أحد رجالات المعتزلة وهو حدث في طور الصبا، فلما كبر ازدادت خبرته ومعرفته واشتهر ببلاغته وفصاحته، وهي -الطلاقة اللغوية- لونٌ من ألوان الذكاء!. في نظريته الذكاءات المتعددة عام 1983، أشار هوارد جاردنر إلى أهمية الطلاقة اللغوية فجعلها واحدةً من أركان نظريته، وأطلق مصطلح (الذكاء اللغوي) على الطلاقة اللغوية، وهي القدرة على استعمال اللغة والحساسية للكلمات والطرب للمحسنات البديعية -من دون المبالغة فيها والتكلف في استعمالها- والألوان البلاغية، والقدرة على نقل الأفكار والمفاهيم بصورة صحيحة لا تَجَمْجُمَ فيها ولا التباس.
ويمكن امتلاك الطلاقة اللغوية والانتفاع بها من خلال القراءة وسعة الاطلاع، مع تفعيل الكلمات الجديدة في الحياة اليومية وبصورة مستمرة، فعلى طريقة بروسلي: "لا أخشى من لاعبٍ تمرَّن على عشرةِ آلافِ ضربة، ولكنني أخشى اللاعب الذي يتمرن على الضربة الواحدة عشرة آلافِ مرة"، إنها قوة التكرار في كل مهارة وحرفة، ومنها توسيع القاموس الشخصي وزيادة الرصيد اللغوي.
كل شخص في حاجة ضرورية للطلاقة اللغوية وتداعي الأفكار والألفاظ، وتتأتَّى تلك الحاجة في صور شتى لنتواصلَ بفاعلية أكبر ولنجعل من حياتنا واقعًا أفضل، والطلاقة اللغوية قد ترجّح كفة المرء أمام الجمهور العام -وبدرجة أقل في حضور الجمهور النوعي المتخصص- على حساب من هم أقوى منه علمًا لكنهم أقل قدرة على التواصل اللفظي لسبب أو لآخر.
لعل أشهر تلك الأمثلة ما يقر به الأصمعي، وما أدراك من الأصمعي! إذ كان سيبويه يتوعّده قائلًا: "لا ناظرته إلا في المسجد الجامع"، وقد كان وتناظرا في المسجد الجامع بالبصرة، يقول الأصمعي: "ورفعت صوتي، فسمع العامة فصاحتي ونظروا إلى لكنته، فقالوا غلب الأصمعي سيبويه؛ فسرني ذلك".
هذا الموقف ليس سمة عامة لأهل العلم، وحظ النفس قد يغلب أحيانًا، لكن الأخفش حين ناظر سيبويه قال له: "إنما ناظرتُك لأستفيد منك، لا لغيرة"، فأجابه صاحب الكتاب: "أتراني أشك في ذلك؟"، فالأخفش أنصفَ سيبويه، ولم يُنصفه الأصمعي ولا الكسائي؛ فمات عقب مناظرة المسألة الزنبورية، ولنا معها حديث يطول.