النساء في البلاد الغريبة

11 ديسمبر 2022
+ الخط -

من غوطة دمشق وحتى السويداء! يا للهول! سيقول العارف بأحوال المنطقتين، لهجة مختلفة، عادات متناقضة، زي لا يشبه أي تفصيل بأزياء المنطقة الأخرى، عادات غريبة ومتنافرة، والغرابة هنا ستتحكم بالطرفين، الغريب وابن البلد، الضيف والمستضيف.

هو النزوح إذن، انتقال قسري ما بين لحظة وأخرى، والصدفة وحدها هي مبرر اختيار هذا الانتقال.

تقول غصون: باتت الحياة عصية على العيش في قريتنا، حرب حقيقية تدور وقد وصلت حتى أبواب بيوتنا، اتصلت أختي المقيمة في مدينة السويداء بسبب عمل زوجها فيها معلمَ ميكانيك سيارات: "جيبي البنات وتعي فوراً"! اللافت في الأمر والعصي على النسيان أن اتصالها كان آخر اتصال قبل انقطاع الاتصالات بشكل نهائي عن قريتنا..

بعد ساعتين، كنت أنا وبناتي الأربع في كراج النقل إلى السويداء. حقيبتان صغيرتان من القماش محشوتان بما استطاعت أيدينا الإمساك به، وكل منا تحمل بيدها كيساً بلاستيكياً صغيراً ظنت أنّ محتوياته هي الأغلى على قلبها.

لم نودع أحداً، لم ندقق في الأبواب والجدران كما قال البعض، ولم نحضر مفاتيح البيت معنا، كل تفصيل غلّف رحلة خروجنا غدا خارج المألوف، وخارج السردية المتداولة حتى عن النزوح.

تجيب غصون بشكل حاسم: لن أعود إلى قريتنا أبداً، لقد كسرنا فكرة الغريب التي قدمت لنا ولأزمان متتالية، لم نكن نعرف شيئاً عن الآخر، تلال من المخاوف استوطنت قلوبنا قبل عقولنا بسبب الروايات المرتبة حسب تسلسل مراد له أن يشكل صورة مخيفة عن الآخر، صورة تحسم أي محاولة للتواصل وتعيق حتى تمرير الأسئلة.

هي البلاد الغريبة إذن، اسمها مخيف وطارد للمبادرة، لكن الغولة الكامنة في بطن الحكاية التي أرغمنا على تداولها لم تأكل أحداً منا، ما زلنا بشراً كاملي الأعضاء والأوصاف وبهيئتنا الطبيعية الأولى كما لو كنا ما زلنا في عقر دارنا.

والأجوبة أكثر من أن تحصى، لدرجة أننا لا نحتاج لتقديم أسئلة، للبنات صديقات أقرب إليهن من أخواتهن، لا أمانع إن فكرت إحدى بناتي بتغيير زيها أو خلع حجابها، تغيرت حياتي اليومية وتفاصيلها وخاصة علاقتي بالجيران وبالسوق والباعة وبكل شيء! غيض من فيض من إجابات تلتها علينا غصون لتطمئننا، ربما؟ لكن الحقيقة الدامغة أنها كانت تطمئن نفسها وتبارك لنفسها ولبناتها قرارها الحكيم بالخروج وبعدم العودة أيضاً.

قالت جدتي ذات يوم: الغريب مجرد بعبع وكل رأس أولى بتفكيك تلك الصورة أو طردها من رأسه، أما أمي فقد قالت: العالم كذبة كبيرة إذا ما اقتصرت معرفتنا به من وراء الستائر أو عبر المرويات المختارة بخبث والمنمّطة بعدوانية خفية، وقالت النساء الهاربات من الحرب والرصاص والقتل: كل الأمكنة متاحة للجميع: لا أرض غريبة أبداً والبلاد لا تعني شيئاً حين تضيق على أهلها وضيوفها فتغدو سجناً، والغربة هي رفض الآخر وتعميم هذا الرفض ليصبح قاعدة للخوف والتخويف، أو مجرد لغو لتثبيت ولاءات ضيقة وخانقة.

هل الانتماء هو مجرد ذاكرة اختيارية للأجمل؟ أو مجرد نوبات من النوستالجيا المتدفقة والجياشة تعالج بالروي في أمسيات خاصة ونادرة؟

يتبادر للذهن سؤال عتيق، لماذا لم تعد عائلات كثيرة إلى قراها بعد قدومها إلى المدن للعمل؟ لماذا انقطعت علاقة غالبية الوافدين من مناطق مهملة ونائية بأماكنهم الأصلية؟ هل الانتماء هو مجرد ذاكرة اختيارية للأجمل؟ أو مجرد نوبات من النوستالجيا المتدفقة والجياشة تعالج بالروي في أمسيات خاصة ونادرة؟

لطالما سعت النساء للهروب إلى الأماكن الأقل تعباً، الأقل تشنجاً، لطالما رفضت البنى التقليدية والموغلة في صلابتها انتقال العائلات حديثة العهد وانفصالها عن بنية العائلة الكبيرة وخاصة في الريف، حيث تغدو الزوجات ملكاً للزوج وأهله، والأصح هن عماد القوة العاملة والأساسيات في خدمة العائلة الكبيرة، لذلك طالما اتهمت تلك المجتمعات كل امرأة تحاول الخروج من تلك البوتقة الخانقة إلى فضاء مستقل بالخائنة، أو بالجاحدة أو بالأنانية، تتبادل هذه المجتمعات ملكية النساء فتحتكرهن ضمن سلسلة من الأعباء المتراكمة، وكلما كانت النساء أكثر تلبية للصورة المطلوبة، منحها المجتمع صفات إيجابية مثل بنت الأصل ومرباية وبنت حلال، والتوصيف هنا هو أيضاً باب فتح النار على الراغبات بالتملّص من ربقة العبودية العائلية الضيقة بل تماه مع ظلمهن، حتى منحهن صفات مثل بلا أصل أو سارقات الأبناء من حضون الأمهات.

أعلنت غالبية النساء الخارجات بسبب الحرب، أو بسبب البحث عن مصادر الرزق أو بسبب عمل الزوج، أنّ العودة مستحيلة إلى تلك الجذور، قد تحدث لمناسبات عائلية محددة، وخاصة مناسبات العزاء والأفراح الكبيرة مثل الأعراس، وقد تكون مؤقتة وقصيرة جداً في مواسم الصيف، لقضاء الإجازات، وربما تكون لتصنيع أو تأمين المونة، خاصة إذا كانت القرى المزارة زراعية ومنتجة للمؤن.

الغربة كربة، والغربة تضيع الأصول، كلها أقوال تكاد أن تكون كاملة الصحة، لكن الغربة مساحة آمنة للهرب، للتخلّص من القيود الصارمة، لتحسين فرص العيش، للبحث عن حياة تشبه الحياة. لطالما ارتبطت فكرة الغربة بالاضطرار، بالرغبة بالهرب بعيدًا حيث لا مصادرة للحرية الشخصية وحيث لا تملّك ولا إجبار.

والنساء عناوين للتغيير، طال زمنه أو قصر، سهلت مسالكه أو تعثرت، من ترهقه أحماله يسعى ولو بطول الصبر للتخلص منها، واللافت ارتباط الغربة بالتغيير، والأشد غرابة هو الاستعداد الكامن لفصم عرى الارتباطات التي تبدو وثيقة بسرعة وحسم غريبين.

والنساء يعانين الغربة في البلاد الغريبة وفي البلاد الأليفة، غربة تتجدد، وقد يتغير إطارها العام لا أكثر، لكن النساء يرجون أن يكون في كل انتقال فرصة للتغيير، ولكسر جدران الغربة اللصيقة كحجر رحى على القلوب.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.