"خيط أريان".. السؤال ترمومتر الحياة (1)
في اتصال هاتفي مع أبي، أطال الله عمره، ومتّعه بالصحة والعافية، سألني: "يا فلان، بكم تشتري كيلو الأرز؟".
مادت بي الأرض، سقط قلبي تحت قدمي، ماذا أقول له؟ استشعرت الحرج، أأقول إنّ ابنك فارق هواية الطبخ منذ سنوات طالت؟ أيصح أن أخبره أنّ ابنه يعيش اليوم على الوجبات السريعة؟
لحظتها سيتنهّد تنهيدته ذات المباني والمعاني ويقول "هو القولون تعب ناس من شوية؟"، أجبت: "تقريبًا سعره كيت وكيت"، فعقّب: "تقريبًا، طيب، الله يصلح الأحوال".
لم تنطل عليه مفردة "تقريبًا" التي سقتها في جوابي، فخرجت من المكالمة أقلّب الفكرة على وجوهها، هل أذهب إلى بعض المحال للتثبّت من السعر ثم أخبره؟ طيب، بعد إيه؟ ما قد كان كان، وبقيت أحدّث نفسي مدة، ثم قفزت بي الأحداث تترى. هذا أبي، الحديث ودّي، دردشة في إطار الاطمئنان على ابنه، والكلام جاب بعضه، من الآخر ليس استجوابًا تحت قبة البرلمان، فيا فلان (يحدّث كاتب السطور نفسه) ما تكبّرش الموضوع.
عبثًا، تحاول أن تصرف ذهنك عن مسألة تربعت فيه بكامل هيئتها، لحظتها تذكرت ما وراء هذا السؤال، وكيف أنه فضح حكومات وأحزابًا، تغنّت بمحدود الدخل ونبض الشارع، ولم تعرف أسعار السلع الضرورية اليومية، بتعبير أكثر أكاديمية، لم يعرف منتسبو الطبقة المخملية تكلفة القاعدة العريضة من هرم ماسلو، احتياجات الناس من مأكل ومشرب ومسكن، وعند الامتحان يكرّم المرء أو يهان.
في 11 إبريل/ نيسان 2022، وقف زعيم المعارضة الأسترالية أنتوني ألبانيز، كالعصفور المبلّل بماء المطر، سأله صحافي: "هل يمكنك أن تذكر لنا معدل البطالة؟".
من يتحدث عن التغيير ويعارض الحكومة وينقم على تصرفاتها وزيادة نسبة البطالة في عهدها، يجب أن يعرف معدل البطالة بالبلاد على وجه الدقة، هذا من نافلة القول
ابتلع ألبانيز الطُّعم، وقال "معدل البطالة 5.4%"، ثم اعتذر لأنه لا يتذكر النسبة على وجه الدقة. "ما هذه البداية التعسة" يحدث نفسه، "أمعقول أن تبدأ حملتي الانتخابية بهذا الإحراج المدوي؟". لم ينته الأمر هنا، حاول الصحافيون إحراجه أكثر، فطلبوا منه أن تجيب وزيرة المالية في حكومته (حكومة الظل)، كاتي غالاهر، عن السؤال نفسه. ثمّ يسأل الصحافي: "الوزيرة غالاهر، هل تعرفين معدل البطالة الوطني؟ والمعدل الحالي للبنك الاحتياطي؟". فأجابت "معدل البنك الاحتياطي 0.1% ومعدل البطالة في وقت سابق 4.0%". حفظت إجابتها شيئًا من ماء وجه الحزب.
الموقف من وجهة نظر الصحافة يتلخص ببساطة في أنه يجب معرفة الأساسيات، فمن يتحدث عن التغيير ويعارض الحكومة (وينقم على تصرفاتها وزيادة نسبة البطالة في عهدها) يجب أن يعرف معدل البطالة بالبلاد على وجه الدقة، هذا من نافلة القول.
كادت إجابة "ألبانيز" تعصف بحزب العمال في الاستحقاق الانتخابي، لدرجة أنّ مراسل "سكاي نيوز"، أندرو كلينيل، أجرى مقابلة صحفية معه مساء اليوم نفسه، وكان أول أسئلته: "سيد ألبانيز، هل خسرت الانتخابات اليوم؟". قال إنه إنسان، والإنسان يخطئ، لكنه (في الوقت ذاته) قائد يعترف بأخطائه ولا يتمحّل لها الأعذار، ولا يلقي باللائمة على الآخرين، وهذا دأب القادة. بالطبع سأله "كلينيل" عن معدّل البطالة، وهذه المرة أجاب ألبانيز دون تلعثم، ذاكرًا النسبة الصحيحة.
ركزت وسائل الإعلام على هذه الهفوة، وتنبّأ كثيرون بانتهاء مسيرة "ألبانيز" في سباق انتخابات مايو/ أيار 2022، من حسن حظه أنّ أخطاء منافسيه كانت قريبة منه، وإلا لغادر السباق الانتخابي منذ يومه الأول، إذ السؤال عن السلع الضرورية بمثابة خيط أريان (في الأسطورة اليونانية) لمعرفة مدى إلمام المسؤول بإيقاع الشارع وهموم الناس. هذا الخيط يهدي الناس إلى استنتاج درجة اتصال المسؤول بهمومهم واهتماماتهم، ويُطلق عليه بعضهم "الخيط الهادي".
سؤال "هل تعرف سعر كيت وكيت؟" معتاد في الحملات الانتخابية، ولذلك تحرص العلاقات العامة على تزويد المتحدثين الرسميين والمرشحين بقائمة أسعار تلك المواد الأساسية
قبل شهرين من سؤال ألبانيز المحرج، في 1 فبراير/ شباط 2022، سأل الصحافي إياه، أندرو كلينيل، رئيسَ الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، داخل نادي الصحافة الوطني عن سعر الخبز ولتر البنزين واختبار (كوفيد-19) السريع. أسقط في يد موريسون، فقال "لن أتظاهر لك بأنني أخرج كلّ يوم وأشتري رغيف خبز، وأشتري لترًا من الحليب، سأترك لك هذه الأشياء يا صديقي، لكن النقطة المهمة هي أنني أتأكد يوميًا من أنّ هذه الأشياء في متناول الجميع".
لتحسين صورة رئيس الوزراء، ظهر صباح اليوم التالي في برنامج (توداي)، سألته الصحافية أليسون لانغدون عن سعر الخبز فأجابها "بالطبع أعرف أسعار الخبز، هل تقصدين خبز الجاودار؟ أم خبز الحبوب المتعدّدة؟ أم خبز العجين الحامض؟".
سؤال "هل تعرف سعر كيت وكيت؟" معتاد في الحملات الانتخابية، ولذلك تحرص العلاقات العامة على تزويد المتحدثين الرسميين والمرشحين بقائمة أسعار تلك المواد الأساسية، مثل الخبز والمياه والبنزين، وكلّ ما يتعلق بقاعدة هرم ماسلو.
لا يتعلّق الأمر بالحملات الانتخابية وحدها، بل يتلخص الأمر في مدى اقتراب المسؤول من هموم الشارع واهتماماته، وقد يتصرّف الشخص في حياته الخاصة كيفما اتفق، ويتمتع بهامش من الحرية الشخصية، لكنه إذا ما انتقل إلى حيّز العمل العام، فإنّ كلّ شيء يصبح تحت الأضواء، لا مبالغة في ذلك.
الرأي العام يحاكم المسؤول ويضعه على المحك، هذا "في أوروبا والدول المتقدمة" بصوت الصديق العزيز والفنان السوداني القدير محمد السني، أما في أماكن أخرى فـ"كله بدنجان يا حبيبي/والظاهر واخد عين"، بصوت الشاعر المصري محمد بهجت، ومن ثم فإنّ البحث في محيطنا القريب عن أمثلة يشبه (إلى حد بعيد) محاولة "الضرب في الميت".
والحال هذه، فإنّ المسؤول "في أوروبا والدول المتقدمة" يحسب للرأي العام ألف حساب، ومن أقرب الأمثلة على ذلك ما وقع لرئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، مطلع العام الجاري، وسيأتيك نبأه بعد حين.