طاقة الضعف
سعيد ناشيد
حينَ تعتقد أنّ ضعفك عيبٌ فيك، وتصرّ طوال الوقت على إخفائِه عن الناس كما لو أنّه "عورتك"، فإنّ جهدَ الإخفاء قد يستنزف طاقتك الكامنة إلى غايةِ هلاكك. إن كان الاكتئاب مثلًا يُمثل الدافع الأساسي إلى الانتحار، فإنّ الجهد الذي يبذله البعض لإخفاء اكتئابه هو ما يعجل بالانتحار.
الإصرار على اعتبارِ الضعفِ ثغرة يجب إخفاؤها عن الغير حتى لا يستغلها ضدنا، أو حتى لا نخسر صورتنا أمام الغير، قد يجعلنا ننسى ما تحمله مكامن الضعف من طاقةٍ كامنة.
يُعتبر الأطفال الصغار أكثر ضعفًا وهشاشة من الراشدين والكبار، ولذلك يحتاجون إلى حمايةٍ مُضاعفة من الأمراض والجراثيم والفيروسات، إلّا أنّهم رغم ضعفهم، أو بالأحرى بفضلِ ضعفهم، فإنّهم الأقدر على تحمُّل الأمراض الأشدّ شراسة، وإنّهم بالتالي الأسرع إلى التعافي مقارنةً بالكبار.
الضعف هو طاقة النمو نفسها حين يحسن استثمارها. فكما أنّ مناطق الفراغ في الكون طاقة فيزيائية هائلة تدفع المجرّات والأجرام السماوية، فكذلك مكامن الضعف في الإنسان تمثل طاقةً حيوية هائلة بوسعها أن تدفع الذات نحو مزيدٍ من النماء والارتقاء.
كلّنا نعرف نجومًا عالميين لكرةِ القدم عانوا من أمراض ووعكات صحية قاضية، ولم يعودوا إلى الملاعب إلا بعد أن تغلّبوا عليها، أمراض تتعلّق بالسرطان، والقلب، والسكري، والانزلاق الغضروفي، وقد عانى بعضهم من اختلالاتٍ خِلقية تتعلّق بضعف النمو، أو قصرِ القامة، قبل أن يتغلّبوا عليها بنحو مذهل. هذا مما يعرفه الكثيرون، لكن الذي ينبغي أن نعرفه أيضًا، أنّهم انطلاقًا من مكامن ضعفهم هذه، طوّروا أسلوب لعبٍ خاصاً بهم، وإنّنا اليوم حين نشاهد مباريات كرة القدم ندرك بقليلٍ من التأمل أنّ الأسلوب الخاص بكلِّ واحد منهم، سواء في مستوى الأداء العام أو تدبير الجهد البدني والنفسي، هو شكل من أشكال توليد الطاقة الإنسانية من الضعف الإنساني.
أمام الأسلوب الجيّد، فإنّ صاحب الضربات القوية يمكن أن يخسر بكلّ سهولة. ذلك أنّ القوة الحقيقية هي الأسلوب
وعلى سبيلِ المثال، فإنّ نجم كرة القدم الإيفواري، سيباستيان هالر، الذي قاد منتخب بلاده للفوز بكأسِ أمم أفريقيا عام 2024، والذي عانى من مرض السرطان الخبيث، لهو دليل آخر على صحة فرضيتنا الأساسية: لا تولد الأشياء العظيمة إلا من رحمِ الضعف.
في فنون البودو، فنون القتال اليابانية المتحدرة من تقاليد الساموراي، عادةً ما يُوصي المعلمون البارعون المتعلّمين المبتدئين بأن يعثر كلّ واحد منهم على أسلوبه الخاص انطلاقًا من مكامن ضعفه لا قوته: قامة الجسم، حجم الأصابع، طول اليد... إلخ، فانطلاقًا من مكامن الضعف يمكنه بناء أسلوب قتالي قد يبدو شاقًا في البداية لكنه سرعان ما يصير سلسًا جرّاء التمرّن، طالما يتعلّق الأمر بعمليةِ نحتٍ للأسلوب المناسب. ذلك الرهان يصدق على كلّ مناحي الحياة، حيث القوة هي الأسلوب.
في معظم قصصِ القتال الآسيوية ينتصر الشيخ الهرم والحكيم على الشاب القوي والمندفع، ليس هذا من باب التحيُّز الثقافي أو الديني إلى كبار السن، بل لعلّها أسرار القوة كما تدركها الثقافات الآسيوية.
ليس صحيحاً أن من يولد عظيماً يموت في العظمة كما يُقال، بل الأصح أنّ الأشياء العظيمة لا تولد إلا من رحم الضعف
العنصر الحاسم في القتال البدني لا يكمن في قوّة العضلات ولا قوّة الضربات، بل القدرة على التكيّف السريع مع الوضعية القتالية، وهو ما يتطلّب أقصى درجات المرونة النفسية والحركية، والتركيز الذهني، وهو ما يُحيل بالتالي إلى الخبرة الطويلة. إذن، تكمن المعادلة في أنّ الخبرة تنتصر دومًا على القوة.
إذا كان التعريف الأشهر للذكاء أنّه القدرة على التكيّف، فإنّ قدرة الجسد على التكيّف السريع مع الوضعيات المطلوبة، سواء في فنون القتال أو الرقص أو سائر تجارب الحياة اليومية، ستحيل بدورها إلى ذكاء الجسد. هنا يكمن معنى القوة.
لا تكمن القوة في العضلات المفتولة كما تروّج سينما هوليوود عبر صور نمطية مُضلّلة، بل تكمن في ذكاء الجسد، أسلوبه، ردود أفعاله، وقدرته على التكيّف السريع. والحال أنّ البنية الجسدية لأبطالِ فنون القتال، تؤكد بنفسها ذلك.
كون العنصر الحاسم في القتال هو ذكاء الجسد بدل العضلات، فهذا ما يجعلك قد تهزم خصمًا أقوى منك حين تعرف كيف تستعمل قوته لصالحك، كيف لا تستنزف طاقتك، كيف تُساير اتجاه قوته وتُعيد استعمالها في التوقيت المناسب، وفوق ذلك كيف تلجم حماسك الزائد وانفعالاتك الخاطئة.
أمام الأسلوب الجيّد، فإنّ صاحب الضربات القوية يمكن أن يخسر بكلّ سهولة. ذلك أنّ القوة الحقيقية هي الأسلوب.
في معاركِ الحياة أيضًا لا ينتصر من يمتلك العضلات أو السلطة أو المال، بل ينتصر من يمتلك الأسلوب.
لا يمكنك أن تقاتل دون أن تمتلك أسلوبك المناسب في القتال، كما لا يمكنك أن تعيش جيّداً دون أن تمتلك أسلوبك المناسب في العيش
إن كان معظم الضعفاء يخسرون معاركهم فليس بسبب ضعفهم، بل لأنّ الانفعالات السلبية الناجمة عن مشاعر الضعف قد تغلبهم فلا يطوّرون أيّ أسلوب قتالي مناسب.
لا يمكنك أن تقاتل دون أن تمتلك أسلوبك المناسب في القتال، كما لا يمكنك أن تعيش جيّدا دون أن تمتلك أسلوبك المناسب في العيش.
وهكذا أقول لك الآن:
حاول إذن أن تطوّر أسلوبك في الحياة انطلاقًا من مكامن ضعفك، فإنّ ضعفك ليس عيبًا فيك، بل طاقة كامنة لديك، وفرصة سانحة أمامك.
ليس صحيحًا أنّ من يُولد عظيمًا يموت في العظمة كما يُقال، بل الأصح أن ّالأشياء العظيمة لا تولد إلا من رحم الضعف.
ينبغي أن تعمل على استكشاف الطاقة الكامنة في مكامن ضعفك. ولأجل ذلك عليك أن تتخلّص من وهم القوة أوّلًا!