فلسفة "مغايرة" في الرقص والتطبيل
"البلد حالها انقلب، ربنا يعدي اليومين الجايين دول على خير"، لم نكد نسمع هذه العبارة حتى تلمّس كل واحدٍ منا حذاءه، وأضمرنا أن نخرج من المقهى إلى بيوتنا في لمح البصر، كما لو كنا في سباق المائة متر، وننافس يوسين بولت على الذهبية. قبل أن نُطلق السيقان للرياح، ارتفع صوت آخر من الموضع نفسه يجادل صاحبه "وأنت دخلك إيه؟ هي حرة".
كان لزامًا أن نبتعد عن هذين المشاكسين، قد يهبط علينا مخبر في أي لحظة، لن يغفر لنا -لحظتها- سماع هذه العبارات التحريضية، ربما يتهمنا بخيانة الوطن وإهانة السلطات، إلا أن صديقنا رابسو -كاتب محامٍ متقاعد- اقترح أن نتبيّن الواقعة حتى نتمكن -لاحقًا- من الدفاع عن أنفسنا، وحسنًا فعل فإننا قضينا العمر هربًا بعد هرب، ولنواجه مصيرنا بشجاعة لمرة واحدة، ما المانع؟
استرق رابسو السمع وقد أخرج من طيات ملابسه ورقة وقلمًا، وبدأ يدوّن بعض الملاحظات باهتمامٍ مريب، وكلما سألناه قطّب وعضّ شفته السفلى، مشيرًا بالتزام الصمت حتى يُنهي مهمته على أكمل وجه، ووقعت قلوبنا تحت أقدامنا، وأدركنا أننا ذاهبون في شربة مياه! بعد هنيهة، تحلّل أحد الرجلين المريبين من تحفّظه، و"تكلم ع المكشوف، وعلى عينك يا تاجر".
قال لصاحبه وهو يحاوره " أصابتني لوثة من هذا يا أخي، لم أفهم سببًا واحدًا لهذا الإصرار، ما الفائدة المرجوة من ذلك؟ هل ستتغير حياتنا للأفضل؟ أتُرى ستتحسن أحوال الغلابة وستتوقف الحكومة عن هدم بيوتهم، أما شيء غريب والله". لا يملك المعلم تُربة روحًا للمناهدة، ولا يحب الألغاز والكلمات المتقاطعة؛ فأخذ عصاه ووقف أمام الرجلين ثم ضرب بغيظ مكتوم على الطاولة -مستحضرًا شخصية الفتوة- قائلًا "شرفتونا يا بهوات، توكلوا من غير مطرود، هنقفل".
تركنا كِرساية يعصف بالقهوة واللي فيها، والمعلم تُربة يتوسل إليه أن يقفل هذه السيرة، ويكلمهم عن المسرح والنحو، أو يسكت أحسن وأسلم، بينما وضع كل واحدٍ منا "ديل جلابيته في أسنانه" وهات يا فكيك
"هتقفل إيه يا معلم؟ الدنيا لسه عصاري، سلامة الشوف"، قالها المشاكس الأول متوهِّمًا أن الحشيش لحس دماغ المعلم تُربة، لكن تعالي أصوات رواد قهوة الأخرس فسّرت حيثيات الطرد المزمع للمشاكسين، إذ غمغم الحاج الظني "اللي يتكلم في السياسة يشوف له مكان تاني، احنا ناس غلابة، لا لنا في الطور ولا الطحين، خلونا نربي عيالنا ونمشي جوه الحيط".
"سياسة! أعوذ بالله، مين جاب سيرتها، أقسم بالله يا معلم تُربة ما نعرف سكتها، كلامنا عن موضوع تاني"، ثم أشار إلى صاحبه بيديه -مأخوذًا من التهمة- قائلًا "ما تقول يا فالح". اختطف صاحبه خيط الحديث، محاولًا إخفاء مجلة فيها صور مثيرة، وبعدما بلع ريقه مرارًا قال بصوت محموم "يا معلم! مالنا والسياسة، ده أنا بفضفض لصاحبي عن مسألة أثرت في نفسيتي"؛ ليقطع رابسو حديثه ملوِّحًا بملاحظاته التي سجّلها رافعًا صوته "مفيش أي داعٍ للإنكار، أنا كتبت كل حاجة".
نظر تُربة للرجلين شزرًا، قبل أن يواصل الرجل ما انقطع من حديثه "صلوا على النبي يا حبايب، أنا مستغرب من لقب (ملكة المسرح)، وبأي حق تصر ميريام فارس أن تخلع على نفسها هذا اللقب، ده كل ما في الموضوع. أقول خلعت اللقب، وأعني ذلك ولم أتطرق إلى خلع شيء آخر".
تنفس الجميع الصعداء، في حين نظرنا إلى رابسو نظرة كادت تحرقه، إذ أوحى إلينا انهماكه في تسجيل الملاحظات أن الأمر جلل، لم يمرر لنا هذه المعلومة الحيوية، وتركنا في حيص بيص. ظل الجو مكهربًا لدقائق، ظن المعلم تُربة أنه في موقفٍ مُحرج، وأراد أن يتخلص من ورطته؛ فأشار إلى كِرساية أفندي -وكان موظفًا بدار الكتب المصرية قبل إحالته للمعاش، وله ولعٌ بكتب التراث ويعشق إفيهات الأفلام والنكت الحريفة- طالبًا مداخلته كما لو كان ضيفًا في برنامج "توك شو".
استهل كِرساية حديثه بعبارات تنظيرية فلسفية قائلًا "من يستحق الألقاب فعليًّا لا يأبه لها، وعلى العكس -تمامًا- يلهث كثيرون وراء الألقاب وهم دون المستوى"، وأخرج صوتًا ما قبل أن يُكمل "إن كانت الرقصات الغريبة على المسرح تضمن لقبًا بعينه؛ فإن شميم الحلي رأى مثل ذلك، وخلع على نفسه من الألقاب ما الله به عليم، منها لقب ملك النحاة، بالرغم من أخطائه في النحو".
لكن بمناسبة الرقص، وتمهّل قليلًا ماسحًا عثنونه ثم واصل، فقد قرأت في وفيات الأعيان أنه لما وَلِي جلال الدين الزينبي الوزارة، دخل عليه هبة الله بن الفضل بن القطان، الشاعر المشهور، والمجلس غاصٌ محتفلٌ بأعيان الرؤساء، وقد اجتمعوا للتهنئة؛ فوقف ابن القطان بين يديه ودعا له، وأظهر السرور والفرح، ورقص!
حينها قال الوزير -وكانت فيه مسحة من توقُّد وذكاء- لبعض من يُفضي إليه بسره: قبَّح الله هذا الشيخ؛ فإنه يشير برقصه إلى ما تقول العامة في أمثالها "أرقص للقرد في زمانه".
وللقطان بيتٌ يدل على ذلك: (كل من صفَّق الزمان له قمتُ أرقصُ)، ولابن عتبة الإشبيلي: (أصبحت في الدَّهرِ مُستضَامًا/ أرقصُ في دولة القرود)، وهنروح بعيد ليه؟ تساءل كرساية -والناس في المقهى كأنّ على رؤوسهم الطير- وأزال عنهم حرج الجواب متممًا كلامه: عندنا ابن هانئ الأندلسي لما مدح الخليفة الفاطمي بمصر قال (وما زُلزلت مصرُ من همٍ ألم بها/ لكنها رقصت من عدلكم طربا)، وقد عُرف عنه تطبيله للحاكم؛ فالرقص طريق مختصر "شورت كت" يا إخوانا للسجادة الحمرا والتكريم.
اللي يرقص لقرد النهاردة -مفيش مانع مع الاعتذار من السيدة شيرين عبد الوهاب- يطلع على الشاشة بكرة ويقول "كنت أتقمص دور ابن القطان"، والتفاسير مشاع بين الناس، ويكون قد جمع بين الحسنيين؛ رضا القرد عليه خلال حكمه، واستعطاف الناس واستمالتهم بعد زوال دولة القرد، وفي الحالين هو من أرغد الناس عيشًا وأطيبهم حالًا.
لم يُطق أحدنا سماع جملة زيادة، تركنا كِرساية يعصف بالقهوة واللي فيها، والمعلم تُربة يتوسل إليه أن يقفل هذه السيرة، ويكلمهم عن المسرح والنحو، أو يسكت أحسن وأسلم، بينما وضع كل واحدٍ منا "ديل جلابيته في أسنانه" وهات يا فكيك.