في ضيافة الفرزدق (1)
ماذا لو ردّ البُعيث المجاشعي على جرير بن عطية الخطفي؟ وقبل ذلك، ماذا لو أمسك البُعيث عن التحرش بجرير؟ لقد حضَّر البُعيثُ عِفريتًا من الجن لم يقوَ على طرده، وفي العُرف أن "اللي يحضر العفريت يِصرفه"، لكن ماذا تقول لهذا البُعيث؟! جرَّ شَكَل عمنا جرير ولم يمتثل نصيحة عاطر الذكر والسيرة نزار قباني (فإن من بدأ المأساة يُنهيها/ وإن من يفتح الأبواب يُغلقها/ وإن من أشعل النيران يُطفيها).
في البدء، كان التهاجي بين غسَّان بن هذيل -من عشيرة سليط- وجرير، وتدخَّل البُعيث ليناصر الهذيلي على الخطفي، وحين قصَّر في مجاراة جرير، وأغلظ له ابن عطية الهجاء حتى أتى على ذِكر نساء بني مجاشع، ضاقت الصدور وبحثت عن محامٍ عُقر على شاكلة إبراهيم الهلباوي -أو فريد الديب أو الواد محروس بتاع الوزير- يرد عنها كيد جرير، ومن لها سوى ابنهم البار همام بن غالب؟!
في فلك هذه الحادثة يدور لقاؤنا مع ضيفنا، ونتلمَّس معه بدايات الطريق التي امتدت حتى وفاته، وزادت عن 50 عامًا قضاها في حلبة الهجاء مع منافسه العنيد، واكتوى بنيرانها ما يربو على 80 شاعرًا، ويتشعب الحديث في مسالك شتى، لعلنا نفيد من هذه التجربة الفريدة.
بدايةً، سيد همام! حدثنا عن هذه اللحظة الفارقة في تاريخك، وما انعكاساتها على حياتك الشعرية؟
قبل الحديث عن هذه المسألة الشائكة، أنا أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة بن دارم بن مجاشع، وأود أن تناديني بلقبي الذي غلب على اسمي، الفرزدق، إذ إنه بصمتي التي لا تتكرر تحت الشمس، كما غلب لقب الجاحظ -من بعدي- على اسمه، وإن كان معنى الفرزدق هو القطعة من العجين، غير أني لا أقف عند ذلك، ولا أعبأ -كذلك- بجهامة وجهي وخشونة طبعي وفظاظتي وبداوتي، كلها أمورٌ لا أتحرَّج منها ولا أخفيها، شأني في ذلك شأن كثيرين ممن سبقوني وممن لحقوني، خذ -على سبيل الذكر لا الحصر- أبا الأسود الدؤلي والجاحظ وبشار بن برد، حازوا قدرًا من الدمامة لا يُحسدون عليه ويُستعاذ بالله منه، ومع ذلك، حققوا مكانة اجتماعية وأدبية سامقة لسعة علمهم واستطالة بيانهم.
المهم أن أسد الله الغالب نصح أبي أن يعلمني القرآن، وظلت النصيحة قيد الانتظار حتى جاوزت الثلاثين؛ فألزمت نفسي حفظ الذكر الحكيم عن ظهر قلب
أعود إلى سؤالك وقد نكأت الجرح، ولا أخفيك سرًا لقد صببت من اللعنات على هذا البُعيث، وربَّ كلمةٍ قالت لصاحبها دعني؛ فقد تعرَّضَ لجرير وهو يعلم أنه لن يقدر عليه، وصدق فيه قول الأعشى ميمون بن قيس (كناطحٍ صخرةً يومًا ليوهنها فلم/ يضرها وأوهى قرنَه الوعلُ)، يومها كنتُ قد اعتزلتُ الهجاء وقررت أن أكفي الناس لساني وقيّدتُ نفسي بقيدٍ عملًا بنصيحةٍ قديمة، وبينما أنا على تلك الحال، جاءتني نساء بني مجاشع يضربن وجوههن وصدورهن، ويوبخنني على اعتزالي حلبة الهجاء، ونقلن لي ما قال فيهن ابن عطية.
ما العمل؟ لقد جرى لساني بالهجاء منذ بواكير حياتي الشعرية، كنت أهاجي شعراء قومي وأنا غلام في خلافة عثمان، فكان قومي يخشون معرة لساني منذ يومئذ، وفي بعض الأيام أخذني أبي من يدي ودخل على علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه- وفاخر بي بين الناس "إن ولدي هذا يقول الشعر"، لا سيَّما أن أبي لم يطاوعه الشعر وكان جدي يقول المقطعات الصغيرة، فكانت فرحتهما بجريان الشعر على لساني لا توصف. المهم أن أسد الله الغالب نصح أبي أن يعلمني القرآن، وظلت النصيحة قيد الانتظار حتى جاوزت الثلاثين؛ فألزمت نفسي حفظ الذكر الحكيم عن ظهر قلب.
وللحظ التعيس -يا هذا- ينبشُ البُعيثُ قبره بلسانه وأسنانه، وتفطَّنت نسوة بني مجاشع أنه لا يفلّ الحديد إلا الحديد؛ فأحفظني قولُهم وأثار غيظي إلى أبعد مدى، وهجوت البُعيث وعرَّضت بابن عطية ولم أصرِّح به لسببين؛ الأول علمي بعناد جرير وقوة شكيمته فأردت أن أتجنَّبه، ولأن البُعيث هو من أوقد النيران وأشعل فتيل الأزمة فتعمّدت توبيخه، ولم أتصور أن يتوسَّع نطاق المشكلة عن ذلك، في حين أن ما جرى لاحقًا لم يكن في الحسبان.
نقض جرير القصيدة وهجاني والبُعيث وصرَّح باسمي ولم يلمِّح، عندها شعرت بخدش كرامتي وإراقة ماء وجهي، وكان لا بدّ من الرد المباشر، وعلى طريقة الكُميت بن زيد الأسدي (إذا لم يكن إلا الأسنة مركبٌ/ فما رأي للمحمول إلا ركوبها)، أو على رواية صاحب الشعر والشعراء (وإن لم يكن إلا الأسنة مركبٌ/ فما رأي للمضطر إلا ركوبها).
وجدت نفسي مرغمًا على الدخول في معركة شعرية، وأنا معني هنا بالتأكيد على نقطة ارتكاز وهي أنني لم أبدأ هذه الحرب، وإنما كنت في حالة دفاع عن نفسي وعن أهلي وعشيرتي، وكان أول ما قلت في هجائه (ألم تر أني يوم جو سُويقةٍ/ بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليا)، وبالمناسبة، فإن يوم سويقة من أيام العرب، وهُنيدة عمتي، وقد نادتني قائلةً: ما لكَ!
لكنني في مطلع القصيدة عدلتُ عن الخطاب وحكيتُ قولها بالمعنى، وهذا البيت معدودٌ في الشواهد النحوية لهذه اللفتة.
وألمح في عينيك سؤالًا، وقد اشترطتُ عليك ألا تسألني أكثر من سؤال واحدٍ في كل مقابلة، لكنني سأجيب عما يعتمل في صدرك، واعتمد في ذلك على سرعة بديهتي، وربما أعتذر إليك -وليس ذلك وعدًا- عن خشونة تعاملي، فهذه طبيعة نشأت عليها منذ نعومة أظفاري بين البصرة والسيدان ببادية السماوة، والطبع يغلب التطبّع.
ولعل جفاف أخلاقي كان السبب الأول في خلافاتي الدائمة مع النساء بصورة عامة، ولعلي أحدثك عن ذلك لاحقًا، عن علاقتي بالنساء لا سيّما ابنة عمي النوار بنت أعين بن ضبيعة، وقصة زواجي بها ودخول عبد الله بن الزبير على الخط! وأذكر أنني سمعت شعرًا رقيقًا في النسيب لعمر بن أبي ربيعة، فقلت "هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار!"، ولست أبالغ في ذلك.
بالرغم مما سبق، فإن لي أن أتباهي مباهاة لا تقل عما يصدعكم به الكابتن مجدي عبد الغني، وإن استشهد بركلة جزاء يتيمة، فإنني أتوسل لذلك بشهادة أبي عبيدة معمر بن المثنى "لولا الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب"، وسأسوق تباعًا شهادات تعضِّد موقفي وتؤكده، ودفعًا للإطالة والإملال، سأحدثك -في اللقاء المقبل- عن دوافع فخري بأهلي حتى في مجالس الخلفاء، والثمن الذي تكبّدته لقاء ذلك، ولماذا يتهمني أنصار جرير بأنني إمعة ومتلوِّن، وجوانب أخرى يتفتّق عنها الحديث في حينه.