مواسم الهجرة نحو الخيبة
تتناقل المواقع الإخبارية خبراً يبدو عادياً ويومياً وهامشياً، لكنه خبر عمّا لا يقل عن ثلاثمائة إنسان، نساء وأطفال ورجال بمختلف الفئات العمرية، والصور المتناقلة كئيبة جداً وموجعة، الخوف يخيم على الوجوه، عائلات بأكملها تلوذ بالخيبة للخلاص من واقع يزداد قسوة وتعنتاً وعنفاً.
جدة تحتضن حفيدها، أم تحاول تهدئة رعب أطفالها، عيون الرجال على البحر، على اليابسة التي تبتعد، على القبطان الصارم والمستبد، يخاف الأطفال من البحر والأمواج والموت والجوع والعطش، لكنهم يتعاملون مع اللجوء وكأنه صخرة النجاة الوحيدة، يتوحد الهدف هنا، ويعرفه الجميع ويسمونه بالاسم رغم اختلاف طريقة ولغة التعبير: "بدنا نخلص!" و"بدنا نهرب من الخوف!" و"بدنا نعيش بكرامة!"، لكن التعبير عن تساوي الحياة مع الموت في الواقع والبلدان التي يهيش فيها الهاربون تمثل ذروة الوجع وترسم تخوم الحبكة اللازمة لتتالي الأحداث اللاحقة وكأنها فيلم رعب طويل لا يعلم أحد نهايته ولا مصير شخوصه.
تقول الأخبار الرسمية أن عام 2024 قد شهد وللمرة الأولى موجات كثيرة من الهجرة في بداياته، أي في أشهر الشتاء التي كانت حركة اللجوء تتوقف فيها بسبب الأحوال الجوية غير الملائمة للإبحار أو للعبور برا! لكن للهجرة تفاصيلها المروعة، أخبار عن شباب ماتوا من البرد، من صقيع الثلوج بعد أن تاهوا في مساحات لا يعرفونها ولا تعرفهم، مساحات تحولت لمقابر فوق سطح الأرض، مساحات تبتلع البشر بنهم غير مقبول وكأنها لا ترتضي إلا المزيد من القرابين البشرية لتستمر في إبقاء شاهدة على انتهاء رحلات البعض موتاً أو تشتتاً أو وقوعاً تحت رحمة مهربي البشر.
يقول أحد الشباب أنه لن يتمكن من تقبّل ما فعله حين ترك صديقه ميتا في إحدى الغابات في بلغاريا، كل ما استطاع فعله هو تغطيته بما يمكن أن يحميه من الوحوش
الرغبة بالهروب تغير معادلة الخوف من الطقس ومن غدر الطبيعة المتقلبة والشاردة على هواها، يقول أحد الشباب أنه لن يتمكن من تقبّل ما فعله حين ترك صديقه ميتا في إحدى الغابات في بلغاريا، كل ما استطاع فعله هو تغطيته بما يمكن أن يحميه من الوحوش أو ظنا منه أنه يحافظ على كرامة الموتى. حمل جوال صديقه وما تبقى معه من نقود وجواز سفره، كل ما كان يمكنه فعله حينها هو الرد على اتصالات أهله وخاصة أمه، والرد كاذباً بأن صديقه مشغول في أمر ما، وبأنهم قد اقتربوا من وجهتهم، محاولات يائسة لتأجيل الفاجعة بعض الوقت من أجل القدرة على الاستمرار والأمل بالوصول نحو الهدف الذي يكتسي بالقسوة ويتشارك مع الموت في إزهاق حياة بعض الهاربين من خيبات لا تعد ولا تحصى لكنها توجب الرحيل مهما كان الثمن!
المؤسف هو ارتفاع كلفة الموت، نعم يبدو الواقع وكأن البشر يدفعون ثمن موتهم مسبقاً ولا أمل حتى في وداع لائق أو في جنازة مهيبة، تعرف وكالات الأخبار والأنباء كلفة الهجرة عبر كل منفذ بري أو بحري أو جوي، الوجوه معروفة أيضاً، لا تعير الوجوه وأصحابها اهتماما للكاميرات وهي ترصد موتهم، خيبتهم، خساراتهم، وعودتهم الأكثر خيبة والتي تساوي الموت ولكن بشكل جماعي وكلفته مدفوعة سلفاً ولا أدنى توقع للتعويض أو محاسبة المتواطئين المتعاقدين مع جناة آخرين يسرقون المدخرات والحياة والآمال في وقت واحد.
حتى الخيبة تتغير ملامحها في طريق العودة، تصبح خذلاناً مراً وقاتلاً، لا تدققوا في وجوه الحزانى العائدين بخيبة جديدة تعادل موتا متجددا، وقناعة بأن الدروب مغلقة دوما في وجوه الأكثر ضعفا والأشد فقرا، يقول أحد الأطفال: "بالروحة ما دخت وما خفت، حبيت البحر وقلت له شكرا"، لكن خلال رحلة العودة داهمت الطفل نوبة من الإقياء والهلع، كان يشتم الجميع، البحر أولاً وحرس السواحل والمهرب، حتى أنه شتم أهله لأنهم أنجبوه في بلاد حدودها مميتة وحياته فيها أشد موتاً وإذلالاً وخيبة.