هل المعتزلة أهل العقل في الإسلام؟
كثيرًا ما نسمع من يأسى لحال عصرنا لما ساد فيه من جمود عقلي عند أتباع الفرق الدينية. ويرتبط ذلك الأسى في كثير من الأحيان بحزن كحزن الثكالى على خفوت المذهب المعتزلي من خريطة عقائد المسلمين.
يصوّر بعض "المثقفين" أنّ المعتزلة هم حاملو لواء العقل في الإسلام وموقدو شعلة التنوير فيه. لكن باطلاع بسيط على تاريخ المعتزلة ونصوصهم، نرى أنّ تلك الأفكار بحاجة إلى مراجعة، لأنّ تلك الأفكار ما ظهرت إلا ردّاً على حركات ومذاهب غربية أبى بعض "مثقفينا" إلا أن يجدوا لها مثيلًا في تاريخنا وثقافتنا، فبتروا منه ما بتروا، وزادوا عليه ما زادوا ليناسب تصوّراتهم عمّا يجب على تاريخ الشرق في أن يماثل تاريخ الغرب.
يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتاب "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" في فصل بيان الأدلة "أولها: دلالة العقل، لأنّ به يميّز بين الحسن والقبيح". يظهر أنّ تلك العبارة تؤيد ما يذهب إليه بعض "مثقفينا"، لكن ما أن نكمل القراءة حتى نجد قوله "ولأن به يعرف أنّ الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع"، ويسترسل القاضي في بيان أهمية العقل، ولكنه في النهاية يراه كأداة للوصول إلى بيان حجية الكتاب والسنة والإجماع كما يرى التوافق بين الوحي والعقل. في هذا نرى أنّ نسبة تقديم العقل على النقل لا تفهم على أنّ العقل ذو السلطة الأعلى، بل على أنّ العقل هو السبيل إلى بيان حجية النقل، لا رفضه. وبهذا نرى أنّ الاختلاف بين المعتزلة وغيرهم من المدارس، لا في تقديم ولا تأخير العقل، بل هو في فهم طبيعة كل من العقل والنقل. ومن ثم، فإنّ نسبة العقل إلى المعتزلة والنقل إلى السلفية وتوسيط المعتزلة والماتريدية بينهما لا يبدو صائبًا تمامًا.
الاختلاف بين المعتزلة وغيرهم من المدارس، لا في تقديم ولا تأخير العقل، بل هو في فهم طبيعة كل من العقل والنقل
أما في نسبة التنوير إليهم، فهذا فيه إشكال أيضًا. يبدو أنّ معظم الفرق الإسلامية في إرثنا التاريخي كانت ترى أنّ هناك طبقتان من البشر: علماء وعوام. وتنتشر تلك الأفكار في نطاق مذهبي شديد الاتساع، من غلو الصوفية إلى غلواء السلفية، من الفلاسفة إلى مكفري الفلاسفة. ويبدو أنّ المعتزلة لا يُستثنون من هذا الحكم، نشير في هذا المقام إلى قول الجاحظ في كتاب الحيوان: "لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم". كما أنّ ما يشكّك في نسبة التنوير إلى المعتزلة هو ما يعرف بـ"المحنة" أو "محنة خلق القرآن"، فلعلها أقوى ما ينفي ذلك الزعم؛ فلا يمكن أن نتصوّر "تنويريين" يحرّضون السلطة على امتحان العلماء والقضاة وغيرهم في مسألة لاهوتية.
الحق أنّ من الأصوب أن تكون لدينا الجرأة على مواجهة ماضينا كما هو، لا كما نرغب في أن يكون، وألا نبحث فيه عن أدوار نظن أنها لا بدّ موجودة في كلّ حقب التاريخ. فكما يوجد البطل وعدوه في الأفلام والمسلسلات، فلا بدّ للتاريخ من "تنويريين" و"ظلاميين"، و"ماضويين" و"مستقبليين"، وغيرها من ألفاظ ما نجد لها وجود من منطق ولا منطوق في تاريخنا!