يُشكِّل التقدّم الذي أحرزته إيران في برنامجها النووي تهديداً مباشراً لإسرائيل والدول الخليجية الداعمة لها التي تحاول جاهدة تحطيم إيران سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبتر كل أذرعها في منطقة الشرق الأوسط، واغتيال كل من بيده مفتاح لخروجها من النفق المظلم الذي حُوصرت فيه بشدّة خلال الفترة الرئاسية لدونالد ترامب التي ستنتهي بعد أسابيع معدودة نتيجةً فوز جو بايدن الذي يعتزم إعادة تركيب السياسة الأميركية إزاء طهران، ولا سيَّما من ناحية تخفيف العقوبات الاقتصادية، والعودة إلى طاولة المفاوضات النووية.
لم يَكد النظام الإيراني يلتقط أنفاسه جرّاء التصفية الأميركية للجنرال قاسم سليماني، حتى اغتالت إسرائيل في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، رغم إنكارها، العالم النووي البارز محسن فخري زاده الذي يعتبر بمثابة الدماغ المُتحكِّم في البرنامج النووي الإيراني، كخطوة استباقية لتعطيل الخطة النووية لإيران قبل جلوس طهران إلى طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015، والمعروف رسمياً باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA).
وفي الوقت الذي لا يزال فيه ترامب في منصبه، تستمرّ إسرائيل عمداً في تأجيج التوتُّر مع إيران، مستغلة حالة الاختناق الاقتصادي التي تُؤجِّل كل مرّة عمليات الانتقام لمقتل ركائز السياسة الأمنية الإيرانية، وتفرض على الإمبراطورية الفارسية مواجهة هذه الاغتيالات بصمت.
فقد تقلَّص الاقتصاد الإيراني بمعدل 6 بالمائة سنوياً منذ توقيع ترامب قرار الانسحاب من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات اقتصادية صارمة على طهران، وتوجيه ضربات موجعة إلى صادرات النفط الإيراني سنة 2018 بهدف إجبار حكومة حسن روحاني على تقديم تنازلات مؤلمة وسط طعنات المعارضة الداخلية القاسية، ونتيجة لهذه الخطة الأميركية - الصهيونية، تدفع إيران تكلفة اقتصادية باهظة الثمن مقابل التشبُّث بطموحها النووي.
حسب تقرير البنك الدولي عن الاقتصاد الإيراني الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، أدّت العقوبات الأميركية المفروضة على إيران إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي النفطي بنسبة 38.7 بالمائة، وتدهور سعر صرف العملة الإيرانية بـ 45.7 بالمائة، وتراجع احتياطات البلاد من النقد الأجنبي إلى 85 مليار دولار، وارتفاع نسبة عجز الموازنة العامة إلى 2.2 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، وتدنِّي فائض الحساب الجاري إلى 0.9 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، وتراجع صافي الصادرات بنسبة 26.9 بالمائة خلال الفترة الممتدة ما بين 2019 و2020.
وقفز معدل التضخم بنسبة 6.4 بالمائة في شهر يوليو/ تموز 2020 ليصل إلى 41.2 بالمائة مع مطلع العام المقبل، وانكمشت التجارة غير النفطية بمقدار 31 بالمائة في الربع الثاني من السنة الجارية بسبب تفشِّي جائحة كورونا، وانضمام العديد من السلع إلى قائمة الواردات المحظورة، وكذا انخفاض الواردات بنسبة 38.1 بالمائة بسبب السياسات الإيرانية للحدّ من تآكل احتياطيات النقد الأجنبي والعقوبات الأميركية على المعاملات البنكية مع إيران.
كذلك ارتفع معدل إصدار السندات إلى 6.9 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بسبب لجوء الحكومة الإيرانية إلى إصدار أدوات دين من خلال مزادات نظَّمها البنك المركزي الإيراني، وبيع أسهم في شركات حكومية بهدف التخفيف من وطأة انخفاض الإيرادات النفطية وهبوط العائدات الضريبية.
ليس الاقتصاد الإيراني وحده يعاني جرّاء السخط الأميركي والإسرائيلي على البرنامج النووي الإيراني، بل أيضاً المواطن الإيراني الذي يمرّ بمصاعب اقتصادية غير مسبوقة، فقد تقلَّص عدد القوى العاملة بـ 1.3 مليون شخص في الربع الأول من السنة الجارية نتيجة تداعيات جائحة كورونا، وزاد ارتفاع التضخم الطين بلة نتيجة لمساهمته في ارتفاع الأسعار وتراجع القوة الشرائية للمواطنين.
ونتيجة طبيعية لكل ذلك توقَّع البنك الدولي أن يرتفع معدل الفقر في إيران بـ 7 نقاط مئوية في الأجل القصير بعد أن وصل سنة 2018 إلى 12.9 بالمائة عند خط الفقر المُحدَّد بـ 5.5 دولارات للفرد في اليوم على أساس تعادل القوى الشرائية في عام 2011.
وبالرغم من شحّ الموارد المالية، وافق مجلس صيانة الدستور الإيراني يوم 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 على اقتراح برلماني يفيد بتقديم الحكومة الإيرانية لحزمة مالية بنحو 2.25 مليار دولار كإعانات مباشرة لتوفير الأغذية والسلع الأساسية للمواطنين بسبب تغوُّل كورونا.
والحلّ لكل هذه المعضلات معروف وموصوف، حيث يمكن قراراً تنفيذياً أميركياً يقضي برفع العقوبات الأميركية وفكّ تجميد الأصول والأرصدة الإيرانية في الخارج، التي تراوح قيمتها ما بين 100 مليار دولار و120 مليار دولار، أن يضع حدّاً للأزمة الاقتصادية التي طال أمدها، وذلك من خلال رفع العائدات الحكومية، تخفيف الضغوط على الموازنة العامة وسعر الصرف، تأمين سيولة مالية، وقف نزيف الاحتياطات الأجنبية، تعزيز قيمة العملة الإيرانية "التومان"، كبح جماح التضخم وإعادة بثّ الروح في سوق العمل.
لقد نجحت الولايات المتحدة في تكبيل إيران اقتصادياً حتى تتمكَّن إسرائيل من صفعها عسكرياً وأمنياً، فقد أحكمت إدارة ترامب قبضتها على النظام الإيراني من خلال حزمة جديدة من العقوبات أعلنتها في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2020، حيث فرضت عقوبات على مبيعات البتروكيماويات الإيرانية، وباعت 1.1 مليون برميل من النفط الإيراني، صودِرت وهي في طريقها إلى فنزويلا، بمبلغ يفوق 40 مليون دولار، كذلك أكَّدت استمرار تجميد الأصول الإيرانية في الخارج بغرض تجفيف المنابع التي يمكن أن تُنشِّط البرنامج النووي، وهدَّدت بإمكانية تجديد حظر تصدير الأسلحة التقليدية إلى إيران الذي انتهى تلقائياً في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2020.
خلاصة القول، أنّ إدارة ترامب استنفدت تقريباً كل الوسائل المتاحة لها لخنق الاقتصاد الإيراني، وإدارة بايدن القادمة على علم تام بأنّه لم يبقَ لها سوى القليل جدّاً لتفعله في ذات نهج سالفتها.
لذلك، وبهدف عدم الإقرار بهذه الحقيقة، روَّجت لانتهاج سياسة مغايرة تسعى من خلالها إلى العودة إلى الاتفاق النووي بغية استمالة إيران مرّة أخرى وبأسلوب ماكر وماهر إلى العودة إلى الامتثال الكامل لذلك الاتفاق، أو إلى نسخة مُجدّدة ومنمّقة منه.
ومن جهة أخرى، لا يثق النظام الإيراني بالعقلية الأميركية ومراوغتها الثعلبية، وحتى إن افترض حسن نيات بايدن، فإنّه متأكِّد تماماً من حقيقة أنّ الرئيس الذي سيَحلّ محله بعد أربع سنوات من الآن سيهدم كل ما بناه.