قبل انفصال جنوب السودان عن شماله في سنة 2011، وفي أعقاب أزمة الغذاء العالمية التي وقعت في سنة 2007، نظمت الأمم المتحدة مؤتمراً للبحث عن حلول استراتيجية للأزمة.
ورغم الحصار الدولي المفروض على النظام السوداني ومطالبة عمر البشير بالمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، دعت المنظمة حكومة السودان للمساعدة في تحقيق الأمن الغذائي العالمي المأزوم.
وفي كلمته، استعرض مندوب السودان قدرات بلده كأضخم بلدان أفريقيا والشرق الأوسط مساحة، وعاشر أوسع قطر في العالم، ويضم أطول امتداد لأطول نهر في العالم، وقال إن الله حبا السودان بموارد طبيعية من الأراضي الزراعية الواسعة والتي تصل إلى 200 مليون هكتار، تعادل 500 مليون فدان.
وتقدر المساحة الصالحة لزراعة المحاصيل الغذائية بنحو 88 مليون هكتار، تعادل 220 مليون فدان، وهي مساحة ضخمة بالمقارنة بمساحة مصر الزراعية البالغة 9 ملايين فدان فقط، ويعيش عليها 110 ملايين إنسان. بينما توفر المراعي الطبيعية 47 مليون هكتار، ويتمتع السودان بمساحات شاسعة من الغابات المطرية تقدّر بنحو 74 مليون هكتار.
يمتلك السودان 138 مليون رأس من الثروة الحيوانية، ومخزوناً سمكياً يقدّر إنتاجه السنوي بنحو 110 ألف طن
وتتوفر للسودان كميات مقدرة من مياه الأمطار والأنهار الموسمية والوديان التي يقدر إيرادها السنوي بتريليون متر مكعب. وتتراوح الكمية التي يمكن سحبها سنوياً من المخزون الجوفي بين 150- 645 مليار متر مكعب.
ويمتلك السودان 138 مليون رأس من الثروة الحيوانية، ومخزوناً سمكياً يقدّر إنتاجه السنوي بنحو 110 ألف طن. وختم قوله بأن هذه الإمكانات جعلت من القطاع الزراعي في السودان أحد أهم القطاعات في الدول المرشحة للمساهمة في توفير الغذاء على المستوى الإقليمي والعالمي.
في سنة 2011 وقعت الكارثة، انفصل جنوب السودان عن شماله. وفقد الأول الأمن والغذاء وتحول إلى دولة فاشلة تمزقها الحرب الأهلية، وفقد الثاني ثلث مساحته الأرضية و80% من موارده البترولية الواعدة، وعجز عن إطعام شعبه، فضلاً عن أن يكون سلة غذاء لغيره، وانتشرت طوابير الخبز في شوارع الخرطوم أمام المخابز.
وبعد عقد ونصف من مؤتمر الأمم المتحدة، وبعد أن كان الأمل معقوداً على أن يكون سلة الغذاء العالمي لعقود من الزمن، صنّف المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي في 29 يونيو 2021 السودان كواحد من أفقر بلدان العالم، وضمه إلى مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون "هيبك" بعد أن تراجع دخل الفرد إلى أقل من الدولار وستة سنتات في اليوم.
قبل الاشتباكات المسلحة التي تدور رحاها بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني تعاني البلاد من انعدام الأمن الغذائي. ووفقاً لنشرة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في فبراير الماضي، يحتاج نحو 4 ملايين امرأة وطفل دون الخامسة إلى مساعدات غذائية خلال عام 2023. وجاء في النشرة أن السودان الذي يُعدّ من أفقر دول العالم، يعاني زيادة مطردة في نسب الفقر للعام الثالث على التوالي، ويواجه ثلث سكانه أزمة جوع متصاعدة.
وعبّر وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، في تدوينة عبر موقع "تويتر"، عن قلقه البالغ حيال التطورات الأخيرة في السودان، وقال إن ما يقرب من 16 مليون شخص، يعني ثلث عدد السكان، يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية. وهناك حاجة لأكثر من 1.7 مليار دولار لتقديم المساعد الإنسانية العاجلة إلى 12.5 مليون شخص من الأكثر ضعفاً بالبلاد.
أظهرت بيانات البنك المركزي بالخرطوم أن السودان استورد 2.7 مليون طن من القمح والطحين العام الماضي 2022، بتكلفة 1.06 مليار دولار
أظهرت بيانات البنك المركزي بالخرطوم أن السودان استورد 2.7 مليون طن من القمح والطحين العام الماضي 2022، بتكلفة 1.06 مليار دولار. وتوقعت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فاو، في بيان قبل أيام من الأزمة، أن يحتاج السودان لاستيراد 3.6 ملايين طن من القمح اللازم لصناعة الخبز.
قبيل أن يشتعل فتيل الفتنة الحالية، أظهرت البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء في السودان أن معدلات التضخم في البلاد انخفضا إلى 63.3 بالمئة في شهر فبراير الماضي، مقابل 83 بالمئة في يناير. وهو تحسن كبير في معيشة المواطن الذي واجه معدلات تضخم وصلت إلى 155 بالمئة العام الماضي 2022، و359 بالمئة في عام 2021، وتخطت نسبة 400 بالمئة في منتصف العام ذاته.
وبسبب تدهور الاقتصاد، فقد الجنيه السوداني قيمته وتعرض لانهيار غير مسبوق، ليصل سعر الدولار إلى 447 جنيهاً، في مقابل 48 جنيهاً في عام 2018. ومن المؤسف أن يكون السودان بلداً زراعياً في المقام الأول والأخير، فضلاً عن كونه سلة غذاء للعالم، ثم يستورد القمح اللازم لصناعة الخبز وبكميات بلغت قيمتها 1.13 مليار دولار.
في حديثي مع أحد المستثمرين المتخصصين في تكنولوجيا إنتاج بذور المحاصيل في السودان، أخبرني أن تكلفة إنتاج القمح في السودان تفوق المعدلات العالمية بسبب تخلي الدولة عن دعم المزارعين، خاصة فيما يتعلق بمادة السولار اللازمة لري المحصول والتي زاد سعرها جداً، لأن واردات السودان خلال العام الماضي من المنتجات البترولية بلغت نحو 2.9 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم في ظل موازنة اقتصادية فقيرة وأداء اقتصادي مزرٍ.
وبدلاً من دعمهم، أرهقت، وما تزال، الحكومات السابقة واللاحقة لنظام عمر البشير المزارعين بأعباء مالية وزكاوات واستقطاعات تفوق قدراتهم وتعرضهم للخسارة.
وفي ظل توقف الاستثمارات الزراعية، لا تزيد صادرات السودان من ماشية اللحوم عن 550.6 مليون دولار رغم القدرات الرعوية الطبيعية، وفق بيانات البنك المركزي السوداني، وهي كاشفة للأداء الحكومي الفاشل في المجال الزراعي الأولى بالرعاية.
في ظل توقف الاستثمارات الزراعية، لا تزيد صادرات السودان من ماشية اللحوم عن 550.6 مليون دولار رغم القدرات الرعوية الطبيعي
بعد انفصال الجنوب ظهرت ثروة الذهب لتصبح رافداً واعداً للاقتصاد السوداني بعد الزراعة. وتقدر كمية الذهب المستخرجة من مناجم السودان بحوالي 100 طن سنوياً. والمؤسف أن 30 طناً فقط هي كل ما يدخل منها إلى الخزانة العامة. تنتج الشركات الحكومية 18 طناً، والقطاع الأهلي 12 طناً، وباقي الكميات تهرب إلى الخارج وقيمتها لا تقل عن 5 مليارات دولار سنوياً.
ولا تنعكس هذه الثروة على التنمية والخدمات والصحة والتعليم، بل يمكن القول دون مبالغة إن أحوال المواطن السوداني تسوء مع توسع أنشطة تعدين الذهب. ورغم أن صادرات الذهب بلغت نحو 2.2 مليار دولار العام الماضي، لكنها تنتهي إلى جيوب الجنرالات ولا توجه للمشاريع الزراعية ذات الميزة التنافسية مثل مشاريع الإنتاج الحيواني.
بسبب العجز عن السداد، يصنف السودان دولة في ضائقة ديون لا يمكن تحملها. وبلغ أصل الديون الخارجية نحو 10 مليارات دولار، وهو مبلغ بسيط بالمقارنة بديون دول أخرى أكثر استقراراً في الإقليم وخارجه، ولكن قيمة الديون تضاعفت بنحو 6 مرات إلى 60 مليار دولار تقريباً، نتيجة تراكم الفوائد والجزاءات على التأخير في السداد، حوالي 88% من نسبة الدين هي متأخرات، منها 58% متأخرات فوائد، وفق تقرير وحدة الدين الخارجي في بنك السودان المركزي.
بعد ثورة ديسمبر التي أطاحت نظام عمر البشير، بذلت الحكومة المدنية الجديدة مساعي جادة كللت بالنجاح في الإعفاء النهائي من سداد معظمها وجدولة البقية، فتم تخفيض الديون المستحقة لبنك وصندوق النقد الدوليين.
وفي منتصف عام 2021، نجحت الحكومة المدنية في إقناع مجموعة دول نادي باريس بإعفاء السودان من سداد مبلغ 14.1 مليار دولار ديوناً مستحقة من أصل 23.5 مليار دولار، مع إعادة هيكلة المبلغ المتبقي من الدين، والبالغ 9.4 مليارات دولار، بفترة سماح حتى 2024، ولكن انقلاب العسكر على حكومة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 أجهض الجهود المبذولة.
من الفرص الضائعة والواقع الحزين في السودان معاً، إقليم دارفور، إذ تزيد مساحته عن نصف مساحة مصر، وتختزن أراضيه في باطنها 6 بحيرات من المياه الجوفية، لو قدر لسكانه أن يعيشوا في أمان من الحرب المشتعلة فيه منذ سنة 2003، لتحولت صحاريه الشاسعة إلى مروج وجنات.
هناك تقارير غير سرية عن نشاط شركة فاغنر الروسية في استخراج الذهب بكميات كبيرة في دارفور، بجانب شركات أخرى متخصصة في استخراج اليورانيوم
وكشفت بعثات المسح الجيولوجي الأميركية والفرنسية عن أن الجزء الجنوبي من دارفور يطفو على بحيرة من البترول الخام. وكذلك يزخر الإقليم بمناجم الذهب واليورانيوم والنحاس والحديد والرخام.
وهناك تقارير غير سرية عن نشاط شركة فاغنر الروسية في استخراج الذهب بكميات كبيرة في دارفور، بجانب شركات أخرى متخصصة في استخراج اليورانيوم.
ويرجح أن يكون انفصال الإقليم بخيراته عن السودان أحد أهم أسباب الحرب المحتدمة بين مكوني الجيش السوداني. وهكذا، كلما ظهر بصيص أمل للمواطن السوداني في حياة كريمة أو ضوء خافت في النفق المظلم، أو قل حياة أقل بؤساً، تأتي رياح عاتية فتبدد الأمل وتطفئ النور.