اتخذ الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري بالسودان، إجراءات مثلت انقلابا على ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018)؛ عزل عبد الله حمدوك، رئيس مجلس الوزراء، الذي وضع قيد الإقامة الجبرية، بعد فترة من اختفائه ثم تم الافراج عنه في وقت لاحق، واعتقل وزراء من الحكومة، وأبعد مسؤولين آخرين، وألغى هيئات منها لجنة إزالة التمكين وتسيير النقابات، بجانب فرض الطوارئ وعسكرة الشارع.
هذا المشهد جزء من صراع طبقي، يتمظهر سياسيا ويقوده الجيش، الذي يستخدم أدوات القمع كأداة لحصار وشل قوى الثورة، لتبقى تشكيلة طبقية قلبها الجيش مسيطرة على مواقع اتخاذ القرار، بمبررات الحفاظ على وحدة السودان وحفظ استقرارها وتلبية مطالب الشعب، وإنهاء الضائقة المعيشية.
تصدي المجلس العسكري للحكومة التي كانت تنوي اتخاذ إجراءات تلحق بمصالحه، منها ترسانة المؤسسات الاقتصادية التي يمتلكها ومنقطعة الصلة بالحكومة، وغير المشمولة بالرقابة
كان الانقلاب ضمن سياقات اقتصادية وسياسية متشابكة، ترتبط بأزمة تحالفات الثورة، وتناقض ما بين المكون العسكري والمدني، ويحتل السياق الاقتصادي دورا مركزيا في الانقلاب، في ركائز أساسية:
الأول، الأزمة الاقتصادية العميقة، تركة عمر البشير الثقيلة وأزمة الاقتصاد الهيكلية، وإخفاق الحكومة في إصلاح الوضع بخطوات إسعافية، نتاج أسباب منها تخبطها، وصراعات بين مكوناتها، وتطبيق إجراءات زادت معاناة المواطنين.
ثانياً، حروب ضد الحكومة شنتها مجموعات مصالح ارتبطت بنظام البشير، وتسعى لاستدامة مصالحها.
ثالثاً، تصدي المجلس العسكري للحكومة التي كانت تنوي اتخاذ إجراءات تلحق بمصالحه، منها ترسانة المؤسسات الاقتصادية التي يمتلكها ومنقطعة الصلة بالحكومة، وغير المشمولة بالرقابة، ورغم اختلاف التقديرات حولها (ما بين 200 و400 شركة) تبقى مصدر دخل اقتصادي، وسيطرة سياسية.
رابعاً، تخوفات المجلس العسكري ورجال نظام البشير، من أن تطاول محاكمات وإجراءات قضائية قياداته، سواء في قضايا فساد أو جرائم ارتكبت خلال المواجهات مع الحركات المسلحة، وجرائم ارتكبت في مراحل الثورة منها فض اعتصام القيادة العامة، والذي أراد به الجيش فرض اتفاق منقوص يسمح للجيش بأن يرث الحكم.
كما تدخل في السياق الاقتصادي، حسابات السلطة في ما يتعلق بردود الفعل الدولية، وتأثيراتها الاقتصادية بما فيها من منح ومساعدات وتقلص فرص ضخ قروض أو أموال في مجالات استثمار كان يعول عليها، بالإضافة إلى تأثير الارتباك السياسي اقتصاديا.
إخفاق حكومة عبد الله حمدوك أداة تبرير للانقلاب
بذلت حكومة حمدوك جهودا لفك العزلة السياسية والاقتصادية عن السودان لتكتب له فرص المشاركة في الاقتصاد الدولي، كانت نتائج برنامج الإصلاح الاقتصادي المباشرة مؤلمة، ومنذ منتصف العام الحالي، بدأت اتهامات من جانب المكون العسكري للحكومة بالفشل في تيسير الاقتصاد، وتوفير السلع الأساسية خاصة الخبز والوقود.
وأخذت الاتهامات صيغا حادة وعلنية في شكل تصريحات وخطابات لكل من حميدتي والبرهان، ليظهر الجيش ضعف الحكومة، ويرعى في نفس الوقت تحالفا يواجه حكومة حمدوك، وطالبت قوى التحالف الجديد (الوفاق الوطني) بتفكيك الأزمة وتوسيع قاعدة المشاركة للقوى السياسية والجهوية، وتشاركت اتهامات الجيش للحكومة بسوء الإدارة واحتكار السلطة.
منذ منتصف العام الحالي، بدأت اتهامات من جانب المكون العسكري للحكومة بالفشل في تيسير الاقتصاد، وتوفير السلع الأساسية خاصة الخبز والوقود
وفي هذا السياق، يمكن تحليل حدثين فارقين هما، اعتصامان لموالين للمجلس العسكري؛ اعتصام أمام القصر الرئاسي (شارك فيه أنصار مني مناوي وجبريل إبراهيم)، وخلاله رفعت شعارات تطالب "بحل حكومة حمدوك وتسليم السلطة للجيش" وثانياً العلاقة ما بين إغلاق ميناء (بورتسودان) شرق السودان عن طريق قبيلة البجا منذ 17 سبتمبر، مما عمق أزمة الواردات والتصدير.
كما أغلقت الطرق المؤدية من الميناء للخرطوم، وهناك تقديرات للخسائر متفاوتة، بعضهم يقدرها بـ30 مليون دولار يوميا، بينما فتح الميناء بعد ما يزيد عن شهر، دعما للقائد العام للقوات المسلحة، حسب تعليق ناظر قبيلة البجا محمد الأمين ترك، العضو السابق في حزب المؤتمر الوطني، وبالتالي وظف الإغلاق (الذي يرفع مطالب ضد التهميش) للضغط على الحكومة وتيسيراً لانقلاب البرهان.
الموقف الدولي ضغوط وخسائر اقتصادية
أعلنت عدة دول رفضها لخطوات البرهان، واعتبرتها استيلاء على السلطة، واستخدمت ورقة الاقتصاد، كعامل ضغط، وفي الوقت الذي انقلب البرهان على الحكومة بدعوى فشلها في تفكيك الأزمة، يواجه بتهديدات وقف وتعليق بعض المساعدات والقروض من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع استمرار بعض المساعدات الأممية ذات الطابع الإنساني، وإعلان مؤسسات دولية موقفها الرافض للانقلاب.
وكان البنك الدولي وصندوق النقد اشترطا استقرارا سياسيا بالمرحلة الانتقالية وإجراء برامج إصلاح اقتصادي نفذت حكومة حمدوك بالفعل بعضا منها، والتي تمثلت في إجراءات تخفيض الدعم وإصلاح الموازنة.
كما حذر وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من تقويض الديمقراطية، وربط الدعم المالي بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، كما علقت "برنامج المساعدة المالية الذي تبلغ تكلفته 700 مليون دولار.
وفي المقابل، هناك إشارات إلى أنّ روسيا شجعت على الانقلاب لتحقيق وجود أكبر في أفريقيا، اقتصادياً وعسكرياً، ومناوءة الولايات المتحدة في مشروع القواعد العسكرية.
صراعات الداخل ومصالح الجيش
لم تكن الخلافات بين حكومة حمدوك والمجلس العسكري خافية، خرجت للعلن بتصريحات ومناوشات كلامية، وارتبطت بعدة ملفات، منها محاكمة بعض منسوبي نظام البشير في جرائم ووقائع فساد، وإخضاع الشركات التابعة للجيش إلى الحكومة، كانت صادرات الماشية والذهب ضمن الموارد التي يتحكم فيها الجيش، وتحقق عوائد ضخمة، غير الموانئ وشركات النقل والتي تمنح الجيش إمكانية التأثير في ملفات التعاون الإقليمي نظرا لكون الموانئ أحد محاور الصراع الإقليمي.
وسبق وأشار حمدوك (ديسمبر 2020) نهاية العام الماضي، إلى أن مشاركة الجيش (بأموال الشعب) في شركات القطاع الخاص غير مقبولة، فيما يعد تعبيرا عن رفض توسع ترسانة الجيش الاقتصادية وتغللها في القطاع الخاص دون محاسبة ورقابة.
بينما قابل البرهان الحديث عن اقتصاد الجيش بأن تلك الشركات مستعدة لدفع الضرائب في وقت أعلن حمدوك أنّ 18 في المائة فقط من إيرادات الدولة تحت سيطرة وزارة المالية، وأنّ شركات مالكة للأجهزة الأمنية خارج منظومة الموازنة التي يرى قطاع من القوى السياسية أنّها تمول من جيوب المواطنين عبر زيادة أسعار السلع والخدمات التي تلت برنامج الإصلاح الاقتصادي.
ويأتي في السياق الاقتصادي أيضاً قرار تجميد لجنة إزالة التمكين، والتي من المفترض أن تحصر وقائع الفساد وإهدار المال العام وتحيل وقائعها للتحقيق، ومن اختصاصاتها أيضاً مصادرة الممتلكات وتحديد طرق التصرف فيها، وتبين تقارير اللجنة وقائع فساد، كما استطاعت استرداد مليار دولار إلى وزارة المالية، غير أراض مرتفعة القيمة على شاطئ النيل، و50 شركة.
ولا ينفصل حلّ لجان تسيير النقابات عن الصراع الاجتماعي والسياق الاقتصادي، كان يعتبر البشير السيطرة على النقابات خصماً من معارضيه، خصوصاً قوى اليسار، ويعتبر الجيش أيضاً أنّ قوى الحرية والتغيير كان قلبها النابض اتحاد المهنيين ومكوناته، ويدرك جيداً أنّ تحرير النقابات عن سيطرته يشكل خطراً مستقبلاً، لذا حين ألغى لجان التسيير كان ذلك بهدف إعادة هيكلتها لتكون تحت سيطرته.
يمكن القول إنّ السياق الاقتصادي ما زال حاكماً وعاملاً مؤثراً في انقلاب البرهان، وإنّ ما جرى من صراع على السلطة هو في جانب كبير منه مربوط بصراع اقتصادي على الموارد.