على وقع تحرّكات موظفي الإدارات الرسمية والعسكريين المتقاعدين، أقرّت الحكومة اللبنانية أمس الأربعاء زيادة الأجور بمفعولٍ رجعيٍّ، سُرعان ما حذّر منها خبراء اقتصاديون بوصفها تكراراً لـ"خطيئة" سلسلة الرتب والرواتب عام 2017، وبمثابة "ضريبة مقنّعة، ستؤدي إلى مزيدٍ من تآكل القدرة الشرائية".
وعقد مجلس الوزراء اللبناني أمس الأربعاء جلسة برئاسة نجيب ميقاتي أقرّ خلالها زيادات بمفعول رجعي بدءاً من ديسمبر/كانون الأول 2023، للموظفين والمتقاعدين ترفع ما يتقاضونه شهرياً إلى حدود 9 رواتب، لتصبح بذلك قيمة الرواتب في القطاع العام، تتراوح بين 400 دولار كحدّ أدنى و1200 دولار أميركي بالحدّ الأقصى، فيما أُرجئ بحث موضوع المصارف "لمزيدٍ من الدرس".
وبحسب الأرقام التي حصل عليها "العربي الجديد"، من "الدولية للمعلومات" (شركة أبحاث وإحصاءات عملية مستقلّة)، فإنّ عدد العاملين في القطاع العام يبلغ 210 آلاف، بينما يصل عدد المتقاعدين إلى 124 ألفاً.
وفيما أعلن عاملون في إدارات رسمية استئناف نشاطهم بعد قرار مجلس الوزراء، أكد تجمّع العسكريين المتقاعدين رفضه زيادة الأجور "لجهة قيمتها الهزيلة ولجهة مقارنتها مع ما أعطيَ لموظفي الإدارات العامة تحت عناوين مخادعة كبدل النقل والإنتاجية".
تفاصيل زيادة الأجور في لبنان
وفي التفاصيل، أُعطيَ العسكريون في الخدمة الفعلية في كافة الأسلاك 3 رواتب إضافية بحيث يصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً زائداً بدل نقل 9 ملايين ليرة لبنانية بدل 5 ملايين ليرة لبنانية.
كذلك، أُعطيَ المتقاعدون، عسكريين ومدنيين، 3 رواتب إضافية بحيث يصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً على ألّا تقلّ زيادة الأجور عن 8 ملايين ليرة لبنانية زائد بدل سائق للضباط المتقاعدين الذين يستفيدون من سائق وقدره 5 ملايين ليرة لبنانية.
ومن المقرّرات الصادرة أيضاً، إعطاء الإداريين راتبين إضافيين بحيث يصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً.
ويعطى موظفو الإدارة بدل حضور يومي للموظفين بين 8 و16 صفيحة بنزين، وذلك للفئات 1 إلى 5، بمعدّل 14 يوم عمل في الشهر كحدّ أدنى شرط عدم التغيّب.
كما يُعطى موظفو الإدارة العامة مكافأة مثابرة في حال أمنوا حضوراً شهرياً كاملاً ووفق معايير إنتاجية محددة ستُحدّد لاحقاً. وأشار مجلس الوزراء اللبناني إلى أنّ هذه الزيادات كلّها ستسري بمفعول رجعي من تاريخ 1 ديسمبر/كانون الأول 2023.
وفي السياق، تم تكليف مجلس الخدمة المدنية إعداد تصور إصلاحي خلال ثلاثة أشهر، حول ما يجب أن يتقاضاه العاملون في القطاع العام والأسلاك العسكرية.
ودعا عددٌ من المديرين العامين الموظفين للعودة لخدمة المواطن بدءاً من اليوم الخميس، معتبرين أنّ "ما أقرّته الحكومة، وعلى الرغم من عدم تناسبه مع ما يبذله الموظفون والعاملون من جهدٍ لتأمين استمرارية المرفق العام من جهة، ومع المسؤوليات التي يتولاها المديرون العامون من جهة أخرى، يشكل معالجة آنية وليست نهائية للرواتب المحقة التي يجب أن تكون منصفة ومراعية للواقع الاقتصادي في ظلّ ما أقرته موازنة عام 2024 من ضرائب ورسوم".
وأكدوا "إفادة العاملين في المؤسسات العامة الذين يتماثل وضعهم مع وضع العاملين في الإدارات العامة من زيادة الأجور المقرة بموجب المرسوم، لعدم جواز التمييز في الفئتين المذكورتين، ودعوة الحكومة إلى تصحيح ذلك بالسرعة الممكنة إحقاقاً للعدالة والمساواة".
ودعوا الحكومة أيضاً إلى "إنصاف المتقاعدين لجهة إقرار آلية لاحتساب تعويض الصرف، بما يحفظ كرامتهم بعدما أفنوا عمرهم في خدمة الوطن والمواطن". وأملوا أن "تستكمل هذه الخطوة بإعداد سلسلة رواتب مبنية على أسس علمية وموضوعية على ما أقرّه مجلس الوزراء".
انتقادات واسعة لزيادة الأجور في لبنان
في المقابل، اعتبر تجمّع العسكريين المتقاعدين في بيان أن قرارات الحكومة "لا تراعي أبسط قواعد العدالة والمساواة ولا الأوضاع الاجتماعية والمعيشية المزرية التي يعانيها العسكريون والموظفون المتقاعدون".
وأعلنوا "رفض زيادة الأجور التي أعطيت للمتقاعدين لجهة قيمتها الهزيلة ولجهة مقارنتها مع ما أعطي لموظفي الإدارات العامة تحت عناوين مخادعة كبدل النقل والإنتاجية، بحيث تدنى معاش التقاعد إلى حوالي 60% من راتب مثيله في الخدمة الذي يوازيه في الفئة الوظيفية والدرجة، وذلك خلافاً لقانون الدفاع الوطني ونظام التقاعد والصرف من الخدمة اللذين حددا بوضوح النسبة المذكورة أعلاه بـ85% وهذا بمثابة خرق فاضح للقانون الذي من المفترض أن تكون السلطة قدوة في التزامه لا خنجراً لنحره ساعة تشاء".
وأشار التجمّع إلى أن "الأزمة المعيشية الخانقة تشدّ على رقاب موظفي الخدمة والمتقاعدين على السواء، بسبب التضخم غير المسبوق وموجات الرسوم والضرائب الفلكية التي التهمت الأخضر واليابس، وبالتالي، فإن نظر الحكومة في عين واحدة، يرقى إلى التمييز العنصري بين موظفين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات".
وأكد العسكريون المتقاعدون أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام الظلم اللاحق بهم وسيترجمون ذلك بصولات وجولات، داعين الحكومة إلى "البدء اعتباراً من اليوم بعملية إصلاح الخلل ضمن مدة الثلاثة أشهر التي وعدت بها، وإلا فإننا سنكون أمام مرحلة جديدة من التصعيد تختلف كلياً عن سابقاتها".
وفي إطار التحذيرات الاقتصادية، قال الخبير الاقتصادي والمالي وليد أبو سليمان، إنّ حكومة ميقاتي تعيد وتكرّر خطيئة عام 2017 عند إقرار سلسلة الرتب والرواتب، مشيراً إلى أن الحكومة أقرت أمس برنامجاً تضخمياً بامتياز، واصفاً الزيادات بالمدسوسة، ومعتبراً أيضاً أن هذه الخطوة بمثابة ضريبة مقنّعة ومزيد من تآكل القدرة الشرائية.
من جهتها، تقول الباحثة في القانون الدولي والجرائم المالية والاقتصادية محاسن مرسل لـ"العربي الجديد"، إنّ "الحكومة لا تزال تتخذ قرارات ضمن سياسة الترقيع، وشراء الذمم، وسيبقى مفعولها مؤقتاً، قبل أن تعود التحركات إلى الشارع اللبناني في فترة لاحقة، باعتبار أنّ الخطوات كلّها تأتي خالية من أيّ تصحيحات بنيوية في القطاع العام، وبلا إجراءات سليمة لناحية أساس رواتب الموظفين حتى يستفيدوا فعلاً منها للحفاظ على قدرتهم الشرائية ووضعهم عند بلوغهم سن التقاعد".
وتشير مرسل إلى أنّ "القطاع العام يحتاج إلى إعادة نظر شاملة. صحيحٌ هناك موظفون يتمتعون بالكفاءة واستمروا بالعمل رغم الظروف الصعبة، بيد أن قسماً في المقابل، معيّناً بإطار التوظيف السياسي والمحسوبيات والمحاصصة السياسية، لا يحضر، ولا يمارس وظيفته، ما أدى إلى شلل في الإدارات العامة، وهؤلاء يستفيدون من 400 دولار كحدّ أدنى، نعلم جميعاً أن نسبة منها تأتي من الضرائب والرسوم".
وتلفت مرسل "صحيح أن القطاع خضع لنوع من إعادة الهيكلية الضمنية نتيجة انهيار قيمة الليرة اللبنانية، وانخفضت الأعباء التي كان يكلفها للدولة، بحيث إن النفقات على الرواتب والأجور كانت تبلغ عام 2018 نسبة 40% من إجمالي النفقات بالموازنة، وانخفضت اليوم إلى حوالي 22%، لكن هذا لا يعني أن تقرّ هذه المبالغ من دون تصحيحات بنيوية، خصوصاً أن تمويلها يأتي بزيادة الضرائب والرسوم أكثر من 46 مرة، منها دون وجه حق، وأخرى لا تحاكي تغيّر الواقع المعيشي".
وتشير إلى أنّ "بسياسة الترقيع المستمرة، وغياب الخطط الإصلاحية الشاملة، سنكون أمام زيادات جديدة العام المقبل، وسيبقى القطاع عبئاً على المكلفين والملتزمين دفع الضرائب والرسوم".
كذلك، تعتبر مرسل أنه لولا قيام حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري والمجلس المركزي بتنظيم مالية الدولة وفصلها عن مالية البنك المركزي، لكانت الحكومة ستلجأ إلى زيادات عشوائية وغوغائية، ستنعكس حكماً على سعر الصرف، وهو ما لن نشهده اليوم، باعتبار أنّ الزيادات ستكلف البنك المركزي نحو 120 مليون دولار شهرياً، وهو قادرٌ على تأمينها من خلال العمليات المحاسبية والسياسات النقدية البحتة.