كارلوس غصن... من إمبراطور صناعة السيارات إلى محتال

22 نوفمبر 2018
76AFA77B-D8E6-4AFA-97D6-F854616F299A
+ الخط -

في ليلة ماطرة في طوكيو، نزل رئيس شركة "نيسان" اليابانية، كارلوس غصن، من طائرته الخاصة ليجد نفسه مخفورا إلى زنزانته الخاصة في السجن. ما الذي ينتظر عملاق صناعة السيارات الذي كان يحظى بإعجاب كثيرين حول العالم، بمن فيهم قادة دول، في متاهات النظام القضائي الياباني المعقد؟ وكيف انتقل منقذ شركات صناعة السيارات من الإفلاس إلى رجل ملاحَق من القضاء بتهم الفساد المالي والتهرّب الضريبي؟


من هو كارلوس غصن؟

حقق كارلوس غصن، اللبناني الأصل والحاصل على الجنسية الفرنسية، نجاحاً ساحقاً في اليابان؛ نظراً لأنه كان أجنبياً عصف أسلوبه المختلف بعالم الشركات اليابانية الذي كان يعتريه التراجع، ولكن تجاهله لأعراف عالم الأعمال ربما كان السبب في سقوطه.

هذا الرجل، الذي اعتُبر منقذا لشركات إنتاج سيارات متعثرة، لدرجة أن حياته تحولت إلى قصة خلّدتها كتب الرسوم، موقوف، منذ الثلاثاء، ويواجه تهماً بارتكاب مخالفات مالية، بما فيها إخفاء دخله الهائل. ويبدو من المرجح أن الشركات التي أنقذها (نيسان وميتسوبيشي) ستستغني عنه كرئيس لمجلس إدارتها، وأصبح إرثه كمنقذ للشركات في مهب الريح.

ولغاية أحداث هذا الأسبوع الدراماتيكية، كانت كل الروايات المتعلقة به تتحدث عن تفاؤل غير محدود.

قال كوسوكي ساتو، الخبير الاقتصادي البارز في معهد أبحاث اليابان، إن "غصن هو، على الأرجح، أنجح رئيس مجلس إدارة أجنبي في اليابان". وأضاف "ما فعله لم يكن له مثيل في تاريخ الشركات اليابانية". ولكن كل هذه الروايات تبخرت، مساء الإثنين.

في مؤتمر صحافي بعد ساعات من توقيف غصن واعتقاله من قبل السلطات الأمنية اليابانية، عرَض الرئيس التنفيذي لشركة نيسان، هيروتو سايكاوا، الذي اختاره غصن بنفسه، رواية معدلة عن تاريخ غصن المولود في البرازيل، قللت من دوره في تغيير مصير الشركة اليابانية.

وأشار سايكاوا إلى "الجانب المظلم" من عهد غصن، وقال إنه جمع قدرا مفرطا من السلطة في يده، وأصبح بعيداً عن العمليات اليومية للشركة. ورفض سايكاوا الانحناء اعتذارا، كما هي الحال في أي مؤتمر صحافي تقر فيه أية شركة يابانية بارتكاب موظفيها مخالفات.

منقذ شركات السيارات

يقف غصن وراء تشكيل مجموعة السيارات الفرنسية - اليابانية، رينو- نيسان- ميتسوبيشي. قبل

التجديد له كرئيس مجلس إدارة لفترة أخيرة من أربع سنوات في بداية السنة الحالية، ألزم مساهمو رينو، كارلوس غصن، بإعطاء الأولوية لاستمرارية التحالف الثلاثي.

ووصلت المجموعة إلى المرتبة الأولى عالميا، مع بيع 10.6 ملايين سيارة في 2017، متجاوزة تويوتا وفولكسفاغن.

واستطاع غصن أن يكون موضع تبجيل في اليابان، وذلك بعد أن استطاع النهوض بنيسان، التي تولى رئاستها عندما اشترتها رينو في 1999.

وفي عالم صناعة السيارات، حيث انتهت معظم عمليات الدمج إلى الفشل تاريخياً، خصوصا بين صانعين من دول مختلفة، نجح غصن في التغلب على الاحتكاك بين فرق المهندسين. وبدلا من الهيمنة على نيسان وميتسوبيشي، فكّر رجل الأعمال في بناء مجموعة تقوم على توازنات معقدة تحتفظ فيها كل شركة باستقلاليتها الذاتية.

المجموعة مكونة من شركات منفصلة ترتبط بمساهمات متقاطعة لا تشكل أغلبية؛ رينو تملك 43 بالمائة في نيسان التي تملك بدورها 15 بالمائة من أسهم التحالف.

ومنذ 2016 باتت نيسان تملك 34 بالمائة من ميتسوبيشي. لكن نقطة ضعف المجموعة أيضا هي كارلوس غصن إذا تعثر، وهو ما حصل.

وقال فلافيين نيوفي، مدير مرصد سيتيليم للسيارات، "لقد عرف دائما كيف يحافظ على التوازن الدقيق بين الجانبين الفرنسي والياباني في الشركة. وخصوصية هذا التحالف هو أنه يقوم، في جانب كبير منه، على شخصية كارلوس غصن ومساره. فهو رجل التحالف، وستكون خلافته بالضرورة معقدة جدا".

راكم غصن، الذي كرّسه المالك السابق لشركة رينو لوي شويتزر، وظائف رئيس مجلسي إدارة نيسان وميتسوبيشي، إضافة إلى رئاسة مجلس إدارة مجموعة رينو (التي تضم أيضا داسيا ولادا وسامسونغ موتورز والبين)، علاوة على رئاسة مجلس إدارة التحالف الثلاثي.

وبطلب ملحّ من الدولة الفرنسية، أكبر مساهم في رينو مع 15 بالمائة من رأس المال ونحو 22 بالمائة من حقوق التصويت، عيّن غصن، في شباط/فبراير 2018، مسؤولا ثانيا عن التحالف، هو تييري بولوري، الذي دعي لخلافته على رأس الشركة الفرنسية.

وأراد بذلك طمأنة السلطات الفرنسية بشأن مستقبل هذه المجموعة الصناعية المزدهرة وارتباطها بفرنسا. ويشغل بولوري (55 عاما)، الخبير الكبير بآسيا التي أمضى فيها فترة كبيرة من حياته المهنية، منصب مساعد رئيس مجلس الإدارة. لكن لا شيء محددا في قوانين رينو بشأن إدارة التحالف.

وتتقاسم رينو ونيسان معظم منصاتهما لصناعة السيارات، إضافة إلى العديد من المحركات. وهما تقومان بمعظم مشترياتهما معا وبينهما ترابط كبير. وأتاح هذا التعاون وما ينجم عنه من اقتصاد نفقات توفير 5.7 مليارات يورو في 2017.

وكان غصن ذاته يؤكد أن ديمومة المجموعة مصدرها أولاً ما توفره لمختلف مكوناتها. وقال في شباط/فبراير، في مقابلة مع فرانس برس "كلنا متفقون على أن التحالف أمر جيد تستفيد منه كل الشركات التي تكوّنه (...) أمضيت 20 عاما في بناء هذا التحالف، ولا أنوي البتة عدم ضمان استمراريته".

غصن "صنع أعداء"

سارع الإعلام الياباني، الذي دأب على مدح غصن لدوره في إنقاذ شركة نيسان وإنعاش قطاع

صناعة السيارات في البلاد، إلى انتقاده عقب إلقاء القبض عليه وتوجيه التهم له، ومنها الفساد المالي والتهرّب الضريبي.

وأشارت صحيفة "نيكاي" المالية اليومية إلى أنه لم يقطع إجازته عند اندلاع فضيحة تفتيش في نيسان في 2017. بينما وصفت صحيفة يوميوري شيمبون المديرين التنفيذيين في نيسان بأنهم "طماعون".

ونقلت الصحيفة اليومية عن موظفين قولهم إن "غصن يقول الصواب، ولكن في النهاية كل شيء يتعلق بالمال". فضائح الشركات ليست جديدة على اليابان، غير أن هذه القضية التي تركزت على الإثراء الشخصي تركت مرارة.

قال جيف كينغستون، مدير الدراسات الآسيوية في جامعة تيمبل اليابانية "غصن ضحية عجرفته ونجاحه". وأضاف "لقد تم تحويله إلى بطل بسبب ثقافة الشركات المتعفنة في اليابان، حيث إنه لم يكن يرحم، وهو الآن يدفع الثمن".

وصرح كينغستون لوكالة فرانس برس، بأن غصن "داس على الأعراف الثقافية اليابانية بأساليبه بادعاء المجد، كما أن راتبه الهائل أثار الغيرة والأحقاد عليه". وكان راتبه هائلا بالمعايير اليابانية، وأدى إلى انتقادات له، حتى على مستوى الحكومة في فرنسا.

وقال روبرت دوجيريك، مدير معهد الدراسات الآسيوية المعاصرة في جامعة تمبل اليابانية، إن غصن "صنع أعداء وتسبب في غيرة المؤسسة اليابانية، لأنه بطريقة ما انتهك أعراف المديرين التنفيذيين". وأضاف أن "غصن كان يعيش حياة رئيس تنفيذي، في حين كان معظم المديرين اليابانيين أكثر تواضعاً". 

صدام حضاري

ربما كان أسلوب غصن المتكبر، وليس كونه أجنبيا، هو ما جعله مختلفا عن باقي المديرين

اليابانيين، وفق فرانس برس. وسواء من خلال تنفيذه إعادة هيكلة شاملة للشركات الذي أكسبه لقب "خافض التكاليف" أو قراره الاحتفال بزواجه الثاني في قصر فرساي على أسلوب حفلات ماري أنطوانيت، فقد كانت شخصية غصن مناقضة لشخصية مديري الشركات اليابانية.

ويأتي سقوط غصن في الوقت الذي تعاني فيه اليابان من نقص الأيدي العاملة وتسعى إلى جلب العمال المهاجرين الأجانب. وتسبب ذلك في استياء بعض الأوساط، بوصفه خروجاً على سياسة الهجرة اليابانية المتشددة التي ضمنت تجانس المجتمع الياباني نسبياً.

وقال ساتو إن قضية غصن توضح الصدام الحضاري الأساسي في قطاع الشركات اليابانية. وصرح لفرانس برس، بأن "من أسباب حدوث ذلك أن الشركات اليابانية ليست لديها ثقافة منح المديرين التنفيذيين رواتب هائلة".

وأضاف "بعد هذه القضية، قد تتردد الشركات اليابانية في قبول قادة أجانب في المستقبل". ولكن جيني كوربيت، من مؤسسة الدراسات الأسترالية اليابانية، قالت إن ذلك سيكون خسارة لعالم الشركات اليابانية.

وقالت "بالنسبة للشركات التي تحتاج إلى التغيير، يبدو أن الطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي وجود أجنبي". وأضافت "بعد غصن ربما تصبح الشركات التي تحتاج إلى هذا النوع من التغيير أكثر ترددا في تعيين أجانب للقيام بذلك".


ما هي ظروف اعتقال غصن؟

أظهرت صور غير واضحة التقطها مراسل صحيفة "أساهي شيمبون" أن السلطات اليابانية فاجأت غصن عندما دهمت طائرته الخاصة في مطار هانيدا الدولي، يوم الإثنين. ولم تظهر الصور لحظة اقتياد غصن، لكنه نُقل إلى السجن.

وما يُعرف حاليا هو أن رجل الأعمال الثري محتجز في سجن في شمال طوكيو، في ظروف بعيدة تماماً عن حياة الرفاهية التي اعتاد عليها. وقال محاميه أيانو كانيزوكا، لوكالة فرانس برس، "من حيث المبدأ، سيكون في زنزانة وحده".

وقال ليونيل فينسنت، زميل كانيزوكا، "في السجن كل ما تحتاجه من تدفئة وسرير، لكنها ظروف متقشفة"، مضيفا أن هناك باحة داخلية مسوّرة وسط المبنى.

وزار السفير الفرنسي في اليابان، غصن، الثلاثاء، في إطار الخدمات القنصلية، لكن من دون أن تصدر أي تفاصيل عن وضعه.

وعادة ما تكون الزيارات والمكالمات الهاتفية، حتى مع أفراد العائلة، "محدودة للغاية في بداية الإجراءات" القضائية، بحسب فينسنت، وذلك بهدف "حماية التحقيقات الجارية".

وبينما يسمح النظام القضائي الياباني للمشتبه به بلقاء محاميه، إلا أنه يمنعه من حضور جلسات الاستماع، بحسب المصدر ذاته.

وكان لدى المدّعين اليابانيين 48 ساعة بعد توقيف غصن ليقرروا إن كانوا سيوجهون إليه التهمة رسمياً أو سيطلقون سراحه من دون توجيه اتهامات أو يمددون توقيفه.

ويوم الأربعاء، سمحت محكمة بتمديد فترة احتجازه بعشرة أيام، يمكن إضافة عشرة أيام أخرى إليها مع استمرار التحقيق. وخلال هذه الفترة أو بعدها، قد يتم توقيف غصن مجددا بتهمة أخرى. وعادة ما يؤخر المدعون اليابانيون توجيه الاتهامات بانتظار الحصول على أدلة إضافية بينما يتكرر التوقيف.

ومن الممكن أن يقرر المدعون عدم توجيه اتهامات، حتى لو كانت هناك أدلة واضحة. يحصل ذلك إذا رأى المدعون أن الاتهامات غير ضرورية، نظرا لسن المشتبه به أو ظروف ومدى خطورة الجريمة.

وفي الوقت الحالي، يُتهم غصن بعدم التصريح عن قسم كبير من مداخيله. لكن شركة "نيسان" أشارت كذلك إلى "إساءة تصرّف" من طرفه في عدة مسائل أخرى، ما يعني أنه قد يواجه مزيدا من الاتهامات.

وفي حال منعته المحكمة من استقبال الزوار، لن يتسنى له سوى لقاء محاميه. ويمكن إطلاق سراح المشتبه بهم بكفالة، لكن بشرط منعهم من مغادرة البلاد، واتخاذ خطوات تمنعهم من المساس بالأدلة.

ما هي العقوبة التي قد يواجهها؟

أوضح المحامي فينسنت أنه قد يتم "تغريمه 10 ملايين ين ياباني، وسجنه عشر سنوات، لعدم إفصاحه

عن كامل دخله. لكن عادة ما يكون هذا الحكم مع وقف التنفيذ، في أسوأ الأحوال".

وفي اليابان، تتم إدانة 99 بالمائة من الأشخاص الذين يمثلون أمام المحكمة، وهو أمر تنتقده منظمات حقوق الإنسان التي تعتبر أن المحاكم عادة تستجيب لمطالب الادعاء.

وأضاف المحامي أنه من الممكن أن تضغط فرنسا، التي تملك حصة نسبتها 15 بالمائة في "رينو"، "دبلوماسيا".

كم ستطول الإجراءات؟

من الصعب تحديد ذلك، لكن قد يستغرق مثول غصن أمام المحكمة وقتا لا بأس به، بينما يتطلب اتخاذ قرار نهائي عدة سنوات، إذ يمكن مواصلة طلبات الاستئناف إلى أن تصل القضية إلى المحكمة العليا.

ولعل خير مثال على ذلك قضية ثلاثة مديرين تنفيذيين من شركة "أوليمبوس" للتكنولوجيا، التي واجهت فضيحة تتعلق بإخفائها لخسائرها. ولم يصدر أول قرار للمحكمة حيال القضية إلا بعد مرور 17 شهرا بعد اعتقالهم لأول مرة، في شباط/فبراير 2012. ولم يُطوَ ملف القضية نهائيا حتى حزيران/يونيو الماضي.

(فرانس برس، العربي الجديد، رويترز)

ذات صلة

الصورة
معرض يورونيفال في فرنسا، 27 أكتوبر 2008 (Getty)

سياسة

بعد منع فرنسا مشاركة الشركات الإسرائيلية في معرض الأسلحة يوروساتوري، ها هي تمنع الآن أيضاً مشاركة إسرائيل في معرض يورونافال.
الصورة
امرأة في منطقة الصحراء، 3 فبراير 2017 (Getty)

سياسة

دخلت العلاقات بين فرنسا والجزائر في أزمة بعد إعلان فرنسا دعمها مخطط الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب بشأن الصحراء وهو ما قد لا يساعد في حل القضية.
الصورة
تنظيم داعش/فرنسا

سياسة

رفعت فرنسا، أول من أمس الأحد، مستوى التأهب الأمني إلى الدرجة القصوى، وذلك في أعقاب هجوم موسكو الدموي الذي تبناه تنظيم "داعش"، مستعيدة تهديدات عدة للتنظيم.
الصورة
	 في طوكيو: "أوقفوا العدوان على غزة" (ديفيد موروي/ الأناضول)

منوعات

"وحيدا وبصمت"، هكذا يصف الياباني فوروساوا يوسوكي احتجاجه المتواصل على العدوان الإسرائيلي المستمر لقطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
المساهمون