"يقول كثيرون إنني أفضل كاتب 140 حرفاً في العالم"، كتب دونالد ترامب على حسابه على تويتر في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، في إشارة إلى شعبيّته على موقع التغريد الشهير. الأرجح أنّ أحداً لم يقل ذلك، وأن التغريدة كانت من وحي خيال ترامب، لكنّ قراءتها اليوم، بعد 8 سنوات، وبعد 4 سنوات على وصوله إلى البيت الأبيض رئيساً لأقوى دولة في العالم، تكشف لنا الكثير عن ترامب، عن نظرته لنفسه، وعن علاقة الحب والكراهية التي تجمعه بموقع تويتر.
قبل ساعات من الانتخابات الرئاسية الأكثر استقطاباً ربما في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، يبدو النظر إلى تغريدات الرئيس الأميركي مهمة مثيرة: كيف كان شكل ولاية ترامب الرئاسية ليبدو لولا تويتر؟ لا نعرف، لكنّ الأكيد أن هذه المنصّة الافتراضية منحت الرئيس الكثير، وغيّرت شكل التخاطب السياسي الأميركي والعالمي.
نبدأ من السنوات التي سبقت الولاية الأولى، من الرئيس باراك أوباما الذي استخدم مواقع التواصل الاجتماعي بشكل تقليدي، ووفق خطط تسويق مسبقة. كان أوباما ومعه كل العاملين في الشأن العام يعرفون أن الأخطاء على مواقع التواصل الاجتماعي قد تكون قاتلة. ولعلّ المثال الأشهر على ذلك، كان عام 2006، عندما صوّر أحد مناصري الحزب الديمقراطي وهو أس آر سيندات، السيناتور الجمهوري جورج آلن، يتوجّه إليه بالحديث وينعته بالقرد (ماكاكا) بسبب أصوله الهندية. رفع سيندات الفيديو على منتديات الإنترنت، وأرسله إلى وسائل الإعلام، وهو ما أدى في النهاية إلى خسارة آلن للانتخابات عام 2007 في فيرجينيا.
ومع إرساء أغلب السياسيين في العالم طريقة موحّدة للتعامل مع مواقع التواصل، أي بحذر وبكلام منمّق، جاء دونالد ترامب كمرشّح للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية عام 2016. تقول فيرجينيا هيفيرنان في مقال لها عام 2016 في مجلة "بوليتيكو" إن منصة تويتر تعمل بشكل ممتاز مع أي شخص مقتنع بأنه جرى إسكاته في مكان آخر، فتمنحه صوتاً وقدرة على الوصول إلى كثيرين، بشكل مجانيّ. وهو تماماً ما حصل مع ترامب الذي هاجم المؤسسات الإعلامية الأميركية الأشهر منذ بدء حملته الانتخابية عام 2015، بعدما تحالفت بأغلبها مع هيلاري كلينتون ضدّه، فهمّشته بشكل شبه كامل، وجعلت منه مادة للسخرية. وقد تبيّن لاحقاَ أنّ ذلك ارتدّ عكسياً عليها. وهنا تحديداً تكمن تفاصيل القصة.
اختار ترامب منصّته منذ اليوم لأول لترشّحه، وحوّلها إلى ساحة للحرب، والخصومة والسخرية. "يحتاج الرئيس إلى التغريد، كما نحتاج نحن إلى الطعام" قالت كيليان كونواي التي عملت مستشارة في البيت الأبيض بين العامين 2017 و2020.
وإن كان ترامب قد اشتهر بحبّه لتناول الطعام، تحديداً الوجبات السريعة، فإنّ الأكيد أن لذة التغريد لديه تفوّقت على لذة أكل شطائر الهامبرغر، وشرائح البيتزا.
يبدأ الرئيس التغريد الساعة السادسة صباحاً بعد استيقاظه بقليل. وعادة ما تكون تغريداته الأكثر عنفاً وحدّة مرسلة بين الساعة السادسة والعاشرة صباحاً، وهو الوقت الذي يكون فيه وحده، من دون مستشاريه، وفق ما تنقل صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، في تقرير مطوّل عن عادات ترامب "التويترية" عام 2019.
بعد الساعة العاشرة، تنتقل هذه المهمة إلى مسؤول مواقع التواصل في البيت الأبيض دان سكافينو الذي يغرّد نيابة عن الرئيس، بعدما يقوم هذا الأخير بإملاء الكلام عليه، وذلك لأنّ ترامب يرفض التغريد أمام الآخرين كي لا يضطرّ إلى ارتداء نظارته الطبية أمامهم، بحسب الصحيفة الأميركية نفسها.
يرفض ترامب التغريد أمام الآخرين كي لا يضطرّ إلى ارتداء نظارته الطبية أمامهم، بحسب صحيفة نيويورك تايمز الأميركية
خلال سنواته الأربع إذاً، حافظ الرئيس الأميركي على روتينه التويتري، وحافظ كذلك على عنصر المفاجأة، أو لنقل الصدمة. فكل تغريدة من الرئيس كانت تشكّل صدمة للأميركيين، للمجتمع الدولي، و... لمستشاريه وإدارته. مفاجآت يومية دفعتهم في بداية ولايته لمناقشة فرض نوع من أنواع الرقابة على التغريدات، أو أقلّه أن يطّلع البعض منهم على التغريدة قبل إرسالها. ثمّ اقترح بعضهم الطلب من شركة تويتر نفسها أن تمنح تغريدة الرئيس 15 دقيقة للظهور على حسابه، بدل أن تظهر مباشرة. لكن كل ذلك ذهب في مهبّ الريح أمام عشوائية الرئيس.
هذه العشوائية سريعاً ما تبيّن، بعد أسابيع قليلة من وصوله إلى البيت الأبيض، أنها السياسة الحقيقية لترامب، أسلوب عمله المفضلّ، وساحته المحببة. فباتت تغريدته بأهمية البيانات الصحافية التي تخرج عن البيت الأبيض، وأهمّ من المؤتمرات الصحافية المقتضبة التي كانت يعقدها الرؤساء السابقون.
على موقع تويتر، خاض ترامب حروبه الخارجية والداخلية. هنا أبلغ العالم عن قتل زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي، وعلى تويتر، لوّح بالحرب مع كوريا الشمالية، ونعت بشار الأسد بالحيوان. وعلى تويتر نفسه تبلغت وزيرة الأمن الداخلي كريستن نيلسن إقالتها (ما قيل لاحقاً إنه استقالة) من منصبها، وذلك بعدما تبيّن لاحقاً أنها حاولت في اجتماع عاصف ثني الرئيس عن إقفال الحدود الجنوبية مع المكسيك، نظراً إلى استحالة تطبيق هذه الخطوة.
Many dead, including women and children, in mindless CHEMICAL attack in Syria. Area of atrocity is in lockdown and encircled by Syrian Army, making it completely inaccessible to outside world. President Putin, Russia and Iran are responsible for backing Animal Assad. Big price...
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) April 8, 2018
على المنصة نفسها، لم يتردّد ترامب عام 2017 في نسف جهود وزير الخارجية ريكس تيلرسون، أثناء زيارته الصين مع فريق من الدبلوماسيين للتفاوض بشأن العقوبات على كوريا الشمالية. ففي خضم هذه المفاوضات في بكين، رمى ترامب "قنبلته" على تويتر: "سيد تيلرسون يضيّع وقته في محاولة التفاوض مع رجل الصواريخ الصغير... وفّر طاقتك ريكس، سنقوم بما ينبغي القيام به"، في إشارة إلى استخدام أساليب أخرى غير التفاوض لمحاصرة بيونغ يانغ ومعاقبتها. ماذا أيضاً؟ على تويتر، "دمّر" عقود من السياسة الأميركية، معلناً اعتافه بالجولان السوري المحتل، كأرض إسرائيلية.
I told Rex Tillerson, our wonderful Secretary of State, that he is wasting his time trying to negotiate with Little Rocket Man...
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) October 1, 2017
وكما تقول الجملة الشعبية الشهيرة، فإن ترامب "يغرّد ولا يبالي". وهو فعلاً لا يبالي، لا بالعواقب، ولا بالأزمات التي يمكن لتغريداته أن تخلقها. شعبوية الرئيس على تويتر وخارجه فتحت الباب أمام رؤساء آخرين ليحذو حذوه، أبرزهم طبعاً الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو الذي لعب مع نجله نفس دور ترامب وابنه دونالد ترامب جونيور، متقاسمين الهجوم على الخصوم عبر تويتر، ومستوحياً من الرئيس الأميركي النعوت التي وزعها على معارضيه، خصوصاً النساء منهم.
على أي حال، فإنّ مضمون تغريدات ترامب لم يكن سبب نجوميته الوحيد على تويتر. فمنذ بدء حملته الانتخابية عام 2015، استخدم دونالد ترامب لغة سهلة غير منمّقة وغير مصقولة وكثيراً بأخطاء لغوية. استخدم علامات الترقيم (خصوصاً علامات التعجّب) بشكل عشوائي. وقد كشفت دراسة نشرت نتائجها عام 2018، بعد عامين من رصد تغريدات الرئيس، أنّه يكتب مستخدماً لغة تشبه مستوى اللغة عند التلاميذ في الصف الرابع (يبلغ عمر التلاميذ في هذا الصفّ 9 سنوات). وبالفعل فإن أغرب تغريدات ترامب تتشابه لناحية المظهر: كلام بسيط متشابك وغير مرتّب وعلامة تعجب في النهاية.
كشفت دراسة نشرت نتائجها عام 2018، بعد عامين من رصد تغريدات الرئيس، أنّه يكتب مستخدماً لغة تشبه مستوى اللغة عند التلاميذ في الصف الرابع
هل قلنا إن ترامب "يغرّد ولا يبالي"؟ تكرار ذلك يبدو مناسباً، خصوصاً أن الرجل يتعامل مع تغريداته بوصفها مقياساً لشعبيّته. فيتعامل مع عدد الإعجابات التي يحصل عليها كما تتعامل قنوات التلفزيون مع نسب المشاهدة، مقياساً للنجاح والفشل، حتى أنه لا يتردّد بحسب "نيويورك تايمز" بالتعبير عن امتعاضه حين لا تحصد تغريدة يراها مهمة تفاعلاً كبيراً.
لكن التقييم الفعلي لهذه الشعبية يبقى مستحيلاً نظراً إلى أنّ دراسات عدة، بينها دراسة "سبارك تورو" عام 2018، أشارت إلى أنّ حوالي ثلث متابعيه على "تويتر" مجرّد حسابات وهمية، وهو ما أدى إلى خسارته عدداً كبيراً من المتابعين في كل مرة كانت إدارة الموقع تقفل هذا النوع من الحسابات.
قريباً، سنعرف إن كان دونالد ترامب عائداً إلى البيت الأبيض، أم إن كان سيحزم أمتعته ويغادر معترفاً بهزيمة مرجحة، لكن في كلتا الحالتين، لا الرئاسة الأميركية ستعود كما كانت قبل دونالد ترامب، ولا موقع تويتر سيعود كما كان. وهذا بحد ذاته تحدّ إضافي أمام أي رئيس جديد في البيت الأبيض.