عقب سيطرة الانقلاب العسكري على السلطة في السودان، كان من أبرز الشعارات التي رفعها الحكّام الجدد مكافحة الفساد واسترداد أموال الدولة المنهوبة، رغم أن الانقلاب في حد ذاته نوع من أنواع الفساد، بل سرقة لأصوات الناخبين وإرادة الشعوب، وقبل الانقلاب توعد عمر البشير الفاسدين بأقسى أنواع العقاب، ووعد بملاحقة القطط السمان بمن فيهم كبار المسؤولين في أجهزة الأمن.
وقبل استقالة بوتفليقة وبعدها، وعد رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح بـ"فتح ملفات الفساد"، وخاصة الملفات الكبرى ومنها شركة سوناطراك النفطية وبنك الأمين وطريق القرن، وتحدث مرات عن العصابة التي تحكم الجزائر أيام الرئيس المستقيل، ومطالبة الجهات القضائية بملاحقتها.
واللافت أن الجزائريين عندما سألوا: أين ذهب التريليون دولار، حجم ميزانيات بوتفليقة التي تم صرفها خلال ولاياته الأربع التي أمتدت من منذ العام 1999 حتى العام 2019، لم يتلقوا سوى شعارات بمواجهة العصابة.
وفي مصر تم سجن المستشار هشام جنينة بسبب حديثه عن كلفة الفساد وتوغله في أجهزة الدولة، رغم أن الرجل كان يرأس أكبر وأهم جهاز مسؤول عن مكافحة الفساد، وهو الجهاز المركزي للمحاسبات.
وتكرر شعار اجتثاث الفساد في الأردن وليبيا ولبنان، والمغرب وتونس والعراق وسورية واليمن، ودول الخليج الثرية، بل إن الشعارات التي يرفعها مرشحو الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في المنطقة، تخصص جزءاً مهماً للحديث عن المواجهة الشاملة للفساد، وكذا تفعل الانقلابات في المنطقة.
بل إن ثورات الربيع العربي كشفت في موجتها الأولى، التي انطلقت نهاية العام 2010، كيف أن حكاماً سرقوا شعوبهم واستولوا على مليارات الدولارات وحوّلوها إلى بنوك سويسرا وأميركا وجزر الملاذات الضريبية، رغم رفع هؤلاء الحكام شعار مواجهة الفساد طوال فترة حكمهم التي امتدت لأكثر من 40 سنة، كما هو الحال مع معمر القذافي وعلي عبد الله صالح.
ورغم كل هذه الشعارات، إلا أن الواقع يشير إلى أن كل الدول العربية بلا استثناء غارقة في الفساد، والدليل الأرقام التي تنشرها المؤسسات الدولية عن حجم الفساد في المنطقة دون أن تستثني أحداً، ويكفي أن تطالع مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2018 أو أرقام البنك الدولي، لتدرك حجم الفساد وفاتورته الضخمة التي تتحملها شعوب المنطقة وتقدر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات.
وحتى عندما تلتئم القمم العربية، فإن مكافحة الفساد تكون بنداً ثابتاً على جدول أعمال القادة، وتنفض القمة وراء الأخرى بلا نتائج أو مواجهة حاسمة لملف الفساد المزمن، وبعدها يغرق العرب أكثر في تجارة المخدرات والأسلحة والبشر، والرقيق الأبيض والرشوة والاختلاس ونهب المال العام، وغسل الأموال وسرقة أراضي الدولة وتهريب الأثار وغيرها من مظاهر الفساد.
ولا يختلف الحال في أفريقيا، فبحسب أرقام الاتحاد الأفريقي، فإن فاتورة الفساد تكبّد دول القارّة خسائر تقدر بنحو 50 مليار دولار سنوياً، وهذه الأرقام تظهر أن الفساد بات خطراً يهدد ثروات الدول وأصولها، بل إنه لا يقلّ خطورة على مستقبل الشعوب من الإرهاب نفسه، إن لم يكن أخطر.
الكلّ بات يحارب الفساد ورقياً وعبر إطلاق الشعارات، والكلّ غارق فيه عملياً، فإقامة قصور رئاسية وشراء طائرات جديدة دون الحاجة إليها نوع من أنواع الفساد، وكذا إقامة سجون لاستيعاب مزيد من المعارضين السياسيين، وعدم وقف هدر الإنفاق الحكومي وانتشار ظاهرة المستشارين في المؤسسات الحكومية، وغضّ الطرف عن التهرب الضريبي والجمركي.
الحكومات لا تتحمل فاتورة الفساد وربما لا يعنيها مواجة الظاهرة من الأصل، والفقراء وحدهم هم من يدفعون كلفتها كاملة من مواردهم الشحيحة ودخولهم المحدودة.