لطالما تباهت السلطات الإيرانية بقدرتها على التحايل على العقوبات الأميركية بعقد اتفاقات ثنائية وجماعية مُعلنة وغير مُعلنة مكّنتها من مواصلة تصدير النفط، وبعض أوجه التبادل التجاري بالعملات الوطنية، هرباً من ضغوط الدولار والتحويلات المصرفية به، وكل ذلك تحت سقف "الاقتصاد المقاوم" الذي أرسته قيادة المرشد علي خامنئي منذ أعوام.
لكن التوقعات تبدو الآن مغايرة بالكامل. فما بعد اغتيال الجيش الأميركي قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، مع بداية عام 2020، قد لا يكون بالمرّة كما قبله في عام 2019 وما سبقه.
قبل ساعات من مقتل سليماني، كان النائب الأول للرئيس، إسحاق جهانغيري، يصرّح بأن إجمالي عائدات البلاد خلال الأشهر التسعة الماضية من العام الإيراني الحالي الذي بدأ في 21 مارس/آذار، بلغ 70 مليار دولار، عبر التبادل التجاري مع العالم، رغم ظروف العقوبات الأميركية الراهنة، كما نقلت عنه "وكالة تسنيم الدولية للأنباء"، متوقعاً ارتفاع حجم التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار بنهاية العام الإيراني في 20 مارس/آذار 2020.
اقــرأ أيضاً
غير أن توقعاته هذه أصبحت اليوم مرهونة باتجاه تطوّر الأحداث عقب اغتيال سليماني، وما أفضت إليه من تهديد إيراني بالانتقام له، وما يقابله من تهديد أميركي على لسان الرئيس دونالد ترامب، الذي أعلن، السبت، أن الولايات المتحدة حدّدت 52 موقعاً إيرانياً ستضربها إذا هاجمت طهران أي أميركيين أو أي أصول أميركية رداً على قتل سليماني في هجوم أميركي بطائرة مسيّرة يوم الجمعة، مشيراً إلى أن بعضها "على درجة عالية للغاية من الأهمية لإيران وللثقافة الإيرانية".
هل يبقى النمو إيجابياً؟
استطاعت إيران بتحايلها على العقوبات الأميركية المشدّدة أن تحوّل نموها الاقتصادي إلى إيجابي، حسبما أكد قبل أيام وزير الاقتصاد والمالية، فرهاد دج بسند، لافتاً إلى أن الحكومة لم تقترض من المصرف المركزي ريالاً واحداً "رغم أننا نعيش ظروف الحظر"، بحسب "وكالة أنباء فارس"، موضحاً أن الاقتصاد حقق نمواً ناهزت نسبته 0.5% و"هو أمر مثير للدهشة"، لكنه أكد في الوقت نفسه أن "هنالك مسافة كبيرة تفصلنا عن الظروف المنشودة".
ورغم تحقيق نسبة النمو المتواضعة هذه بعد انكماش (نمو سلبي دون الصفر) ملحوظ، يبقى النمو مرتبطاً مباشرةً بأحوال السوق النفطية العالمية وحركة مؤشر الأسعار، إذ أن أي تغيير ينعكس مشكلة على الاقتصاد الإيراني المحاصر، بحسب الوزير نفسه.
ولا تبدو صناعة النفط الإيرانية في "صحة جيدة" على الإطلاق، فقد أفضت العقوبات الأميركية المشدّدة إلى تقليص صادرات النفط الخام أكثر من 80%، وفقاً لما أوردته "رويترز" في سبتمبر/أيلول 2019، بعد شهر واحد من تصريح لوزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في أغسطس/آب، قال فيه إن الولايات المتحدة أزالت نحو 2.7 مليون برميل من النفط الإيراني من الأسواق العالمية، رغم تأكيد السلطات الإيرانية أن واشنطن فشلت في "تصفير" صادراتها النفطية عن طريق تشديد العقوبات.
صعوبات التجارة الخارجية والتمويل
ومع قدوم العام الجديد بتطوّراته غير المسبوقة من حدّة التوتّر بين طهران وواشنطن، تبدو توقعات التجارة الخارجية أكثر صعوبة بالنسبة لإيران التي كانت تطمح في مجال التجارة الخارجية للحصول على 60 مليار دولار بصيغة التمويل (فاينانس)، إلا أن "الأعداء جعلوا إمكانية تحقيق ذلك أمراً صعباً جداً في ظل الكثير من العقبات التي اختلقوها"، بحسب الوزير الذي قال أيضاً: "للأسف إن العدو بمراقبته المباشرة للمصارف المركزية للدول التي تتاجر معنا يحول دون سداد عوائد بيع سلعنا، لكننا في ظروف الحظر الشديدة نعمل بكل قوانا للعثور على سبيل لزيادة عوائدنا".
مخاوف الأسهم والعملة والغلاء
في غضون ذلك، لا تزال التوقعات السلبية تلف البورصة الإيرانية، فضلاً عن بورصات منطقة الخليج، وصولاً إلى الأسواق المالية الأميركية نفسها، إذ كانت بورصة طهران أول سوق تفاعلت سريعاً مع اغتيال سليماني، وتبدّلت مؤشراتها يوم السبت إلى الأحمر بعد 5 دقائق من الافتتاح، مسجلة خسائر هائلة، ليفقد المؤشر أكثر من 3%، تعادل 12 ألفاً و652 نقطة، لتتفاقم الخسائر إلى 16 ألفاً و765 نقطة عند الإغلاق، على وقع تصاعد الخشية من احتمال اندلاع حرب بين الجانبين، ما زاد منسوب المخاوف في أوساط المضاربين الحقيقيين في البورصة ودفعهم إلى التخلص من أسهمهم سريعاً، فيما انتهز المضاربون الاعتباريون الفرصة لشراء الأسهم بأسعار هابطة، مراهنين على صعودها لاحقاً.
كما امتدّت المخاوف إلى سوق العملات الإيرانية، حيث ارتفع سعر صرف الدولار الأميركي في سوق الصرّافين إلى 136 ألف ريال، بزيادة 4 آلاف ريال عن تداولات الخميس الماضي، أي قبل اغتيال سليماني بيوم واحد. فيما تتصاعد المخاوف من أنه في حال استمرار تدهور قيمة العملة الوطنية خلال الأيام القادمة، سينعكس ذلك زيادة في أسعار السلع والخدمات، بما يفاقم معاناة المواطن الإيراني الرازح تحت أعباء معيشية ومالية ضخمة تمليها العقوبات الأميركية "الشاملة" التي فرضتها واشنطن بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو/أيار 2018.
يُشار إلى أن العقوبات الأميركية، قبل هذا التوتير المستجد في الخليج، قد حرمت إيران من عوائد بالعملة الصعبة، باستهداف صادرات النفط والتعدين والبتروكيماويات، وغيرها من القطاعات الحيوية، وهو ما أدخل الريال في مسار تراجعي متواصل فقدت معه خلال عامين نحو 150% من قيمته.
السياحة في عين التهديد الأميركي
ما كاد مساعد وزير السياحة في "وزارة التراث الثقافي والسياحة والحرف اليدوية"، ولي تيموري، يُعلن، يوم الثلاثاء الفائت، بحسب وكالة "تسنيم"، زيادة عدد السيّاح الأجانب الوافدين إلى إيران بنسبة 24% "رغم جميع القيود الدولية الناتجة عن العقوبات، حتى أعلن الرئيس ترامب يوم الأحد أن المواقع الـ52 التي يشملها بنك الأهداف في حال هاجمت القوات الإيرانية أميركيين، تشمل مواقع ذات علاقة بالثقافة الإيرانية، ما يشير بوضوح إلى احتمال ضرب مواقع مرتبطة بالسياحة الدينية التي تجتذب ملايين الوافدين سنوياً.
وإذا كانت الزيادة المحققة العام الماضي بنسبة 24% تقل عن نسبة 52% التي شهدها عام 2018، فإن أي تطوّرات دراماتيكية عسكرياً وأمنياً بعد اغتيال سليماني ستضع السياحة في عين العاصفة، إلى جانب قطاعات اقتصادية وخدماتية حيوية داخل إيران.
مضيق هرمز إلى الواجهة مجدداً
ومع تفاقم التوترات الجيوسياسية والعسكرية في منطقة الخليج، عاد إلى الواجهة مجدداً الحديث عن أمن مضيق هرمز، وهذه المرة في وضع عسكري واستنفار غير مسبوق، وهو ما يزيد من صعوبة حركة ناقلات النفط، سواء تلك المُعلن عنها أو السريّة المخفية عن أنظمة تتبّع مسار السفن العالمية.
اقــرأ أيضاً
وهذا ما دفع بريطانيا إلى الإعلان عن أن بحريّتها ستباشر مرافقة السفن التي ترفع علم بريطانيا عبر مضيق هرمز، لتوفير الحماية لها بعد مقتل سليماني. علماً أن لندن اضطرت إلى مرافقة سفنها عبر أهم ممر مائي في العالم لشحنات النفط لفترة زمنية العام الماضي، بعد سيطرة كوماندوس إيرانيين على ناقلة نفط كانت ترفع العلم البريطاني في المضيق، بعدما احتجزت القوات البريطانية ناقلة نفط إيرانية قرب جبل طارق، لاتهامها بخرق العقوبات المفروضة على سورية.
لا شك في أن التوتّر في الخليج بين أميركا وإيران دخل الآن مرحلة جديدة لا يمكن التنبّؤ بسيناريوهاتها، حسب مراقبين، خصوصاً في حال اتخذت مساراً هجومياً وانتقامياً بين الطرفين، ما من شأنه أن يكبّد إيران خسائر اقتصادية هائلة. ولن تكون اقتصادات المنطقة والعالم بمنأى عن نتائجه القاسية المباشرة وغير المباشرة، ولا سيما في حال أصبحت المواجهة مفتوحة بلا ضوابط.
قبل ساعات من مقتل سليماني، كان النائب الأول للرئيس، إسحاق جهانغيري، يصرّح بأن إجمالي عائدات البلاد خلال الأشهر التسعة الماضية من العام الإيراني الحالي الذي بدأ في 21 مارس/آذار، بلغ 70 مليار دولار، عبر التبادل التجاري مع العالم، رغم ظروف العقوبات الأميركية الراهنة، كما نقلت عنه "وكالة تسنيم الدولية للأنباء"، متوقعاً ارتفاع حجم التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار بنهاية العام الإيراني في 20 مارس/آذار 2020.
هل يبقى النمو إيجابياً؟
استطاعت إيران بتحايلها على العقوبات الأميركية المشدّدة أن تحوّل نموها الاقتصادي إلى إيجابي، حسبما أكد قبل أيام وزير الاقتصاد والمالية، فرهاد دج بسند، لافتاً إلى أن الحكومة لم تقترض من المصرف المركزي ريالاً واحداً "رغم أننا نعيش ظروف الحظر"، بحسب "وكالة أنباء فارس"، موضحاً أن الاقتصاد حقق نمواً ناهزت نسبته 0.5% و"هو أمر مثير للدهشة"، لكنه أكد في الوقت نفسه أن "هنالك مسافة كبيرة تفصلنا عن الظروف المنشودة".
ورغم تحقيق نسبة النمو المتواضعة هذه بعد انكماش (نمو سلبي دون الصفر) ملحوظ، يبقى النمو مرتبطاً مباشرةً بأحوال السوق النفطية العالمية وحركة مؤشر الأسعار، إذ أن أي تغيير ينعكس مشكلة على الاقتصاد الإيراني المحاصر، بحسب الوزير نفسه.
ولا تبدو صناعة النفط الإيرانية في "صحة جيدة" على الإطلاق، فقد أفضت العقوبات الأميركية المشدّدة إلى تقليص صادرات النفط الخام أكثر من 80%، وفقاً لما أوردته "رويترز" في سبتمبر/أيلول 2019، بعد شهر واحد من تصريح لوزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في أغسطس/آب، قال فيه إن الولايات المتحدة أزالت نحو 2.7 مليون برميل من النفط الإيراني من الأسواق العالمية، رغم تأكيد السلطات الإيرانية أن واشنطن فشلت في "تصفير" صادراتها النفطية عن طريق تشديد العقوبات.
صعوبات التجارة الخارجية والتمويل
ومع قدوم العام الجديد بتطوّراته غير المسبوقة من حدّة التوتّر بين طهران وواشنطن، تبدو توقعات التجارة الخارجية أكثر صعوبة بالنسبة لإيران التي كانت تطمح في مجال التجارة الخارجية للحصول على 60 مليار دولار بصيغة التمويل (فاينانس)، إلا أن "الأعداء جعلوا إمكانية تحقيق ذلك أمراً صعباً جداً في ظل الكثير من العقبات التي اختلقوها"، بحسب الوزير الذي قال أيضاً: "للأسف إن العدو بمراقبته المباشرة للمصارف المركزية للدول التي تتاجر معنا يحول دون سداد عوائد بيع سلعنا، لكننا في ظروف الحظر الشديدة نعمل بكل قوانا للعثور على سبيل لزيادة عوائدنا".
مخاوف الأسهم والعملة والغلاء
في غضون ذلك، لا تزال التوقعات السلبية تلف البورصة الإيرانية، فضلاً عن بورصات منطقة الخليج، وصولاً إلى الأسواق المالية الأميركية نفسها، إذ كانت بورصة طهران أول سوق تفاعلت سريعاً مع اغتيال سليماني، وتبدّلت مؤشراتها يوم السبت إلى الأحمر بعد 5 دقائق من الافتتاح، مسجلة خسائر هائلة، ليفقد المؤشر أكثر من 3%، تعادل 12 ألفاً و652 نقطة، لتتفاقم الخسائر إلى 16 ألفاً و765 نقطة عند الإغلاق، على وقع تصاعد الخشية من احتمال اندلاع حرب بين الجانبين، ما زاد منسوب المخاوف في أوساط المضاربين الحقيقيين في البورصة ودفعهم إلى التخلص من أسهمهم سريعاً، فيما انتهز المضاربون الاعتباريون الفرصة لشراء الأسهم بأسعار هابطة، مراهنين على صعودها لاحقاً.
كما امتدّت المخاوف إلى سوق العملات الإيرانية، حيث ارتفع سعر صرف الدولار الأميركي في سوق الصرّافين إلى 136 ألف ريال، بزيادة 4 آلاف ريال عن تداولات الخميس الماضي، أي قبل اغتيال سليماني بيوم واحد. فيما تتصاعد المخاوف من أنه في حال استمرار تدهور قيمة العملة الوطنية خلال الأيام القادمة، سينعكس ذلك زيادة في أسعار السلع والخدمات، بما يفاقم معاناة المواطن الإيراني الرازح تحت أعباء معيشية ومالية ضخمة تمليها العقوبات الأميركية "الشاملة" التي فرضتها واشنطن بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو/أيار 2018.
يُشار إلى أن العقوبات الأميركية، قبل هذا التوتير المستجد في الخليج، قد حرمت إيران من عوائد بالعملة الصعبة، باستهداف صادرات النفط والتعدين والبتروكيماويات، وغيرها من القطاعات الحيوية، وهو ما أدخل الريال في مسار تراجعي متواصل فقدت معه خلال عامين نحو 150% من قيمته.
السياحة في عين التهديد الأميركي
ما كاد مساعد وزير السياحة في "وزارة التراث الثقافي والسياحة والحرف اليدوية"، ولي تيموري، يُعلن، يوم الثلاثاء الفائت، بحسب وكالة "تسنيم"، زيادة عدد السيّاح الأجانب الوافدين إلى إيران بنسبة 24% "رغم جميع القيود الدولية الناتجة عن العقوبات، حتى أعلن الرئيس ترامب يوم الأحد أن المواقع الـ52 التي يشملها بنك الأهداف في حال هاجمت القوات الإيرانية أميركيين، تشمل مواقع ذات علاقة بالثقافة الإيرانية، ما يشير بوضوح إلى احتمال ضرب مواقع مرتبطة بالسياحة الدينية التي تجتذب ملايين الوافدين سنوياً.
وإذا كانت الزيادة المحققة العام الماضي بنسبة 24% تقل عن نسبة 52% التي شهدها عام 2018، فإن أي تطوّرات دراماتيكية عسكرياً وأمنياً بعد اغتيال سليماني ستضع السياحة في عين العاصفة، إلى جانب قطاعات اقتصادية وخدماتية حيوية داخل إيران.
مضيق هرمز إلى الواجهة مجدداً
ومع تفاقم التوترات الجيوسياسية والعسكرية في منطقة الخليج، عاد إلى الواجهة مجدداً الحديث عن أمن مضيق هرمز، وهذه المرة في وضع عسكري واستنفار غير مسبوق، وهو ما يزيد من صعوبة حركة ناقلات النفط، سواء تلك المُعلن عنها أو السريّة المخفية عن أنظمة تتبّع مسار السفن العالمية.
لا شك في أن التوتّر في الخليج بين أميركا وإيران دخل الآن مرحلة جديدة لا يمكن التنبّؤ بسيناريوهاتها، حسب مراقبين، خصوصاً في حال اتخذت مساراً هجومياً وانتقامياً بين الطرفين، ما من شأنه أن يكبّد إيران خسائر اقتصادية هائلة. ولن تكون اقتصادات المنطقة والعالم بمنأى عن نتائجه القاسية المباشرة وغير المباشرة، ولا سيما في حال أصبحت المواجهة مفتوحة بلا ضوابط.