اكتسبت شخصية هذا الحكيم حضوراً في ثقافات شرق المتوسط، بحسب المؤلّف، وازداد الاهتمام به من قبل الفلاسفة المسلمين في القرن الثامن الميلادي، الذين ترجموا العديد من النصوص حوله من اليونانية والفارسية، وتحوّل إلى أسطورة تجلّت بمتونه التي تحمل اسمه أو "الهرموتيكا"، هي مجموعة كتب في الحكمة تتناول مواضيع حياتية وفلسفية بأسلوب يخاطب فيها المعلم هرمس مريديه الطالبين للمعرفة، متأملاً في الإله، والكون، والفكر، والطبيعة.
صدرت مؤخراً النسخة العربية من الكتاب عن "المركز القومي للترجمة" و"بيت الياسمين للنشر والتوزيع" بترجمة الباحث في اللغويات محمد سالم عبادة، والذي يشكّل محاولة لفهم كثير من الالتباسات حول أحد الحكماء الذين تطوّرت صورتهم لتتطابق مع صورة النبي إدريس، وصلة ذلك بتراث المندائيين وإرثهم داخل الحضارة الإسلامية.
يثبت بلادل في الفصل الاول أن "الهيرميتيكا" اليونانية تم إنتاجها في مصر الرومانية، ويتتبع كيفية انتقال أعمال هرمس إلى المنجّمين الساسانيين والحراّنيين الذين احتضنوا عدداً من الفلاسفة الأفلوطنيين الفارّين من حكم الإمبراطور الروماني جستينيان، وترجمة بعض نصوصها لاحقاً من الفارسية الوسيطة إلى العربية، لتنتقل بذلك عبر لغات ثلاث وتتشكّل رمزية مختلفة بين كلّ واحدة منها.
يعود المؤلّف إلى مراجع عربية في الفلك والتنجيم والتي ربطت الكثير من المعارف التي تضمّنتها بالحكيم ومنها كتب أبو معشر البلخي، كما يقف عند تأثر فلاسقة القرن الحادي عشر بنصوصه، مثل الفيلسوف المصري المبشر بن فاتك والذي وضع كتاباً بعنوان "مختار الحكم" اشتمل على مقولات للعديد من الحكماء القدامى، وأشار إلى شخصية هرمس بوصفه مؤسساً لدين بدائي.
يتناول الكتاب العديد من المصادر العربية والمصرية القديمة في إطار دراسة معمّقة عن هرمس "المثلث بالعظمة"، الحكيم المصري القديم الأسطوري، الذي نسبت إليه أعمال كثيرة في التنجيم والسيمياء والطلاسم والطب والحكمة، مركّزاً على مكانته لدى المؤلّفين العرب في التاريخ الإسلامي، والصلة الحقيقية بين الأعمال الكثيرة المنسوبة لهرمس، في المخطوطات العربية، بالهرمتيكا اليونانية واللاتينية التي خضعت للدراسة بشكل أعمق، إن كانت ترجمة للأعمال اليونانية أو تم اختراعها عربياً ونسبتها إلى هرمس.