استنزفت الحرب في سورية قطاعها الصحي المنهك على مختلف المستويات، لكن أخطرها فقدان الكوادر التي قتل النظام وحلفاؤه الروس 846 منها، وفاقمت الأحوال المتردية الظاهرة، ليعمل من تبقى منهم على البحث عن حياة أفضل في الصومال.
- لم يأبه طبيب الأسنان السوري، رامي معروف، لما سمعه عن مخاطر الحياة في الصومال متخذا قراره بالهجرة مطلع عام 2015، بحثا عن حياة أفضل في ظل الصراع الذي تعيشه بلاده وترد كبير للأحوال الاقتصادية، ولدى وصوله عمل في مستشفى سيتي هوسبتال City Hospital الخاص في العاصمة مقديشو لمدة عامين قبل أن ينتقل إلى هرجيسا عاصمة إقليم أرض الصومال والتي عمل فيها لمدة عام، لكنه عاد مرة ثانية إلى مقديشو وعمل في مستشفى أدان عدي (Adan Uday) الخاص.
وأجبر الوضع السوري المعيشي والأمني المتردي 400 طبيب على الهجرة إلى الصومال، وفق تأكيد الدكتور معروف، والذي يعد من أقدم السوريين وعمدتهم في مقديشو، وقارن الطبيب السوري بين الوضع الحالي في بلاده والصومال مشيرا إلى أن العمل في مقديشو أفضل كثيرا كما يقول لـ"العربي الجديد"، وهو ما تؤكده تصريحات نقيب الأطباء السوريين، كمال عامر، والذي قال في حوار على قناة سما الموالية للنظام في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بأن الراتب الذي يحصل عليه الطبيب السوري في الصومال أفضل مما يحصل عليه في سورية، في ظل تأثير الحرب والحصار على الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
وقتل 930 من الكوادر الطبية السورية خلال الفترة من 2011 وحتى مارس/آذار 2021، وارتكبت 91% من عمليات القتل (846 ضحية) على يد قوات الحكومة السورية وحلفائها الروس، و9% من قبل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وقوات التحالف الدولي أو القوات الكردية أو قوات مجهولة الهوية، ومن بينهم 143 جرى خطفهم أو اعتقالهم قبل قتلهم وفق تقرير "استهداف الكوادر الطبية في سورية" الصادر عن منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان PHR في نيويورك، والتي أكدت أن محافظات حلب وإدلب وريف دمشق تمثل أعلى معدلات وفيات الكوادر الطبية.
تعاف هنا وترد هناك
أسهم التعافي التدريجي الذي تشهده الصومال التي سبق أن عانت من انهيار الدولة في عام 1991، في مقابل تردي الأوضاع في سورية، في دفع الأطباء السوريين للهجرة إلى مقديشو، التي وصفوها بـ"الملاذ الآمن" مقارنة بما تشهده بلادهم خصوصا بعد عودة المنظمات الدولية للعمل في مقديشو، بحسب إفادات خمسة أطباء يعملون في مشاف خاصة بالصومال، ومنهم أخصائي الأسنان وجراحة الفكين، غيث الزغبي، والذي قدم بمعية أسرته قبل ثلاث سنوات، مؤكدا أن الأطباء السوريين لم يجدوا فرصا متاحة في دول غنية مثل الخليج العربي ولم يجدوا من يستقبلهم ويقبل عملهم في بقية البلاد في ظل معاناتهم الكبيرة في بلادهم، لكن الوضع تغير بعدما ظهرت أمامهم فرصة جيدة وعائد مالي أفضل مقارنة بالأوضاع في بلادهم.
وحقق الدكتور الزغبي خلال فترة عمله بالصومال مستوى متقدما من الخبرة والدخل المادي وهو ما قد يعجز عن تحقيقه خلال 10 سنوات من العمل في سورية بوضعها الحالي، كما يقول لـ"العربي الجديد".
ولا يوجد تفاوت كبير بين رواتب الأطباء الصوماليين والسوريين، وفق تأكيد الدكتور أسامة عبدي، عضو اتحاد الأطباء الصوماليين لـ"العربي الجديد". ويتقاضى الطبيب العام في الصومال 501.000 شلن صومالي (874 دولارا أميركيا). في حين لا يتجاوز راتب الطبيب العام في سورية 287.000 ليرة سورية أي ما يساوي 82 دولارا (الدولار يساوي 3450 ليرة وفق سعر الصرف في 8 أبريل/نيسان) شهريا، ويتقاضى طبيب أمراض القلب في الصومال، 964 ألف شلن (1681 دولارا) شهريا، فيما يتقاضى نظيره في سورية 592 ألف (169 دولارا)، بينما يتقاضى طبيب الأسنان في الصومال 611 ألف شلن (1066 دولارا)، فيما يتقاضى في سورية 369 ألف ليرة (105 دولارات)، وفق تقييم عام 2021 الصادر عبر منصة salary explorer لمقارنة الرواتب ومحددات الموارد الوظيفية، وهو ما يؤكده طبيب الأسنان السوري، حسن مهنا، قائلا لـ"العربي الجديد":"العائد المالي نظير عملي في الصومال مجز". ومثله الطبيب محمود عبد الحميد صالح، أخصائي جراحة الأسنان والفكين، والذي قال أنه يتقاضى راتبا جيدا نظير عمله في المستشفى المصري بالصومال، مضيفا لـ"العربي الجديد" انتقلت إلى هنا مع زوجتي والتي تعمل بالتدريس في المدرسة التركية بمقديشو، لكن حاجز اللغة يشكل تهديدا أمام بقاء الأسر السورية لمدة طويلة في الصومال، حسب الطبيب الزغبي، والذي عاد وقال، "أي خيار في الحياة يشبه تناول وصفة دواء، ولابد من تحمل آثار جانبية لتحقيق الفائدة الأكبر للقرار".
النظام السوري والروس قتلوا 846 كادرا طبيا حتى مارس الماضي
دعم القطاع الصحي
"لولا الظروف في سورية لما خرجت للعمل في أي مكان في العالم"، هكذا بدأ الدكتور باسم جوهرة، اختصاصي الأمراض القلبية والقسطرة حديثه، موضحا أن القرار كان حديثا إذ هاجر إلى الصومال في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد أن حصل على عقد في المستشفى الصومالي السوداني في مقديشو، مضيفا أن الصومال يفتقر إلى مراكز خاصة مناسبة لجراحة القلب، علما أن التشوهات الخلقية في القلب منتشرة بين الأطفال الصوماليين بصورة مقلقة، وهو ما يرجع إلى تأخر الاكتشاف والتشخيص. واستدرك: "واحد من أهم تفاصيل اتفاقي مع ملاك المستشفى، العمل على تأسيس مركز لجراحة القلب".
ويشكل التواجد الكثيف للأطباء السوريين في الصومال إضافة مطلوبة لدعم الوضع الصحي وتقديم الخدمات الطبية للمرضى في ظل قلة الكوادر الصومالية في المجال الصحي، حسبما يقول الدكتور عبدي، والذي لم ينف وجود بعض المشاكل التي تتصل بالكفاءة والتدريب والتأهيل العملي والخبرة في حالة بعض الأطباء الذين تستقدمهم المؤسسات الطبية، مضيفا أن دور اتحاد الأطباء الصوماليين يقتصر على رفع المستوى المهني والعلمي للأطباء الصوماليين، والمحافظة على حقوقهم ولا علاقة له بالأجانب، حسب قوله.
رواتب الأطباء السوريين في الصومال أضعاف ما يتقاضونه في بلادهم
تحديات العمل والوضع الأمني
قتل 3 من الأطباء السوريين في الصومال بعدما قام مسلحون مجهولون بمهاجمة السيارة التي كانوا يستقلونها في ضواحي العاصمة في ديسمبر/كانون الأول 2013، فضلا عن مقتل طبيب سوري وإصابة آخر مطلع عام 2019، جراء انفجار سيارة كانت تقلهم لدى عودتهم من مباراة لكرة القدم في ملعب بالقرب من مستشفى سيتي الخاص الذي كانوا يعملون فيه، وفق تأكيد زملائهم لمعد التحقيق، لكن على الرغم من هذه التحديات الأمنية فإن هجرة الأطباء السوريين لم تتوقف، إذ يتم الإعلان عن فرص عمل شاغرة للسوريين من خلال صفحة رابطة الأطباء السوريين في الصومال (تم انشاؤها في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2017) على "فيسبوك" والتي أعلنت في منشور لها يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، عن عقد عمل لطبيب أسنان لديه خبرة بالجراحة الفموية، وطبيب نساء.
ويستعين الأطباء السوريون بمترجمين لتشخيص الحالات المرضية، وفق ما يقول الطبيب مهنا، والذي يعتمد على صومالي في تشخيص الحالات التي تزور عيادته الخاصة، في شارع مكة وسط العاصمة بعد اتفاق شراكة عقده مع مواطن بسبب اللوائح المنظمة للعمل في الصومال. لكنه يواجه بعض الصعوبات المتمثلة في ضعف سوق للأجهزة الطبية، بينما يعتمد الدكتور باسم جوهرة، على طبيبة صومالية شابة تشرح له حالة المريض وتفاصيل شكواه بما يمكنه من فهم حالته وتحديد العلاج المناسب.
تقييم الأداء
يؤكد مدير إدارة صحة الطفولة والأمومة في وزارة الصحة الصومالية، الدكتور محمد محمود ديرو، على عدم وجود مجلس طبي يتابع أداء الأطباء الصوماليين أو السوريين والأجانب بشكل عام، مستدركا أن وزارته تنوي بالتنسيق مع البرلمان العمل على تأسيس المجلس الذي سيقوم بمتابعة أداء وشروط استقدام عمل الأطباء، بمن فيهم السوريون.
وبدأت المستشفيات الصومالية الخاصة في استقدام الأطباء السوريين منذ عام 2013، بحسب إفادة مصطفى محمد عبد الله، مدير إدارة الموارد البشرية وعضو مجلس إدارة مستشفى كالكال Kalkaal الخاص والذي استقدم 12 طبيبا سوريا يعملون في تخصصات "النساء والتوليد، الباطني، الأطفال، العظام وطب الأسنان والأنف والأذن والحنجرة"، وتابع :"نعتمد على الأطباء السوريين بشكل أساسي في تقديم الخدمات الطبية والعلاجية في مؤسستنا، بسبب ثقة الصوماليين بما يقدمونه، فضلا عن سهولة استقدام الأطباء السوريين بسبب ما تعيشه بلادهم من ظروف معيشية وأمنية منذ ثمانية أعوام".
ويتم اعتماد التقييم المادي للأطباء في مستشفى كالكال بناء على الخبرة والتخصص والدرجة العلمية، حسب عبدالله، والذي أكد أن التعاقدات تتم من خلال مكاتب تشغيل في الصومال تتولى تقديم الترشيحات بعد تواصلها مع الأطباء الراغبين في العمل بالخارج على أن يدفع الطبيب مرتب شهر للمكتب في مقابل العقد، والذي لابد من اعتماده في سفارة جمهورية الصومال الفيدرالية في دمشق، حسب الدكتور الخضر، والذي اضطر لإنهاء إجراءات سفره عبر سفارة بلاده في الخرطوم باعتبارها الأقرب إلى الصومال في ظل غياب الحضور الدبلوماسي السوري في مقديشو.
ويجمع الأطباء السوريون الذين التقاهم معد التحقيق على أن الوضع الأمني يتحسن في الصومال، ومنهم الطبيب معروف، والذي أكد على التطور المضطرد للوضع الأمني على عكس السنوات الماضية التي شهدت خروقات أمنية وتفجيرات دموية متكررة. حينها تردد الدكتور ماهر محمد الخضر، أخصائي تقويم الأسنان، في السفر إلى الصومال، رغم تلقيه عرضا مغريا، كما يقول، مستدركا غيرت رأيي وعموما :"حاليا نتحرك بحرية ونذهب لشراء احتياجاتنا من الأسواق".