عبد المنعم أبو الفتوح.. محاولة إسقاط الرمز وقتل البديل
عندما خرج المرشّح الرئاسي ورئيس حزب مصر القوية، عبد المنعم أبو الفتوح، في فبراير/ شباط 2018، على عدد من وسائل الإعلام من لندن، ليهاجم نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، ويكشف سوءاته، ويعلن رؤيته للحل، شعرتُ بأنه سيضحّي بنفسه حال عودته إلى القاهرة، ليكتب فصلاً جديداً من فصول نضاله الذي بدأ منذ وقوفه أمام الرئيس الراحل أنور السادات، في جامعة القاهرة، وتحذيره له من جوقة النفاق التي تحيط به ولا تقدّم له النصيحة.
غضب السادات حينذاك غضباً كبيراً، لكن أبو الفتوح ظل طليقاً، بينما لم يطق السيسي صبراً على نصائح أبو الفتوح في هرمه، ونكل به أربع سنوات ونيّف، قبل أن يُصدر قضاؤه، المسيّس بعبارة لطيفة، أو الملوث حقيقة، أحكاماً بالسجن المشدّد عليه 15 سنة، وعشر سنوات على نائبه، الناشط الشاب، محمد القصاص، أحد رموز ثورة يناير المغدور بها، والمراقبة خمس سنوات أخرى بعد خروجهما من السجن، للإيحاء بأن الحكم عادل أو يقوم على أسباب وحجج منطقية!
عاد أبو الفتوح إلى القاهرة طوعاً، في أعقاب قولته "أن أعيش في سجن أبي زعبل خير لي من أن أعيش في قصر في لندن". ولا أعتقد أن ما حدث لاحقاً مثّل لديه أو لدى غيره مفاجأة، فبعد ساعات من نزوله من على سلّم الطائرة، اعتقل بصحبة شبابٍ من حزبه، ووضع قيد الحبس الاحتياطي سنوات، وتم تدويره على قضية أخرى بالاتهامات نفسها، قبل أن يُحال إلى محكمة أمن الدولة طوارئ، وهو ما جرى تقريباً مع معظم النشطاء، مثل علاء عبد الفتاح وزياد العليمي وغيرهما، قبل أشهر وأسابيع من غلق فصل الطوارئ ورفع الحالة، لتصبح أحكامها المعيبة والمعلبة بحقهم، كالإعدام، باتّة ونهائية، لا استئناف لها.
كشف الحكم المغلظ على أبو الفتوح زيف مزاعم الحوار الوطني، وأكّد أنها مجرّد أكاذيب يلوكها النظام ويتقيأها كلما تعرّض لضغوط خارجية
لم يكن الحكم مفاجأة، ولا الحبس الانفرادي في عنبر معزول، بعيداً عن البشر والشمس والحجر، والزيارات عبر هاتف، ومنع الرسائل والصلاة والكتب، ولا الاعتداء عليه فى سجنه بالضرب، كما أعلن نجله حذيفة، ما أدّى إلى إصابته بأزمة قلبية كادت تودي بحياته، ولا غيرها من ممارسات الفاشية المتعمقة، التي لا تليق بالعقد الثالث من القرن الحالي الذي يشهد سقوطاً أخلاقياً على المستوى العربي لم تشهده عواصمه في حقبة الاستعمار، والذي يهدّد بانفجار قد يكون مدوّياً، وستصبح معالجة آثاره من المستحيلات. وقد طاولت حملة قمع أبو الفتوح فرض حصار اجتماعي وحياتي على أفراد أسرته، فوضع نجله أحمد فى قضيته، ونال حكماً مشدداً (غيابياً) وفصل نجله الآخر من عمله ومنع من السفر، وجرى الاستيلاء على أموال الأسرة وممتلكاتها.
تنطوي محاولة البحث عن أسباب (ودوافع) كم الإجرام النفسي والعقلي والفعلي الذي تكنّه أو تزخر به السلطة القائمة منذ انقلاب 2013، تجاه معارضيها، على قدر كبير من الصعوبة، ويحتاج لأعوام وأدوات ووسائل وأجواء غير متاحة الآن، لكنه يستند، في جزء كبير منه، على الخوف من البديل أو عقدة فرعون الذي ذبح أجيالاً خوفاً من أن يولد من بينها من يطيحه أو يزحزحه عن عرشه الذي كان يرتفع يومياً، ويعلو على أكوام من جماجم ضحاياه وأشلائهم.
كان خطاب أبو الفتوح فى لندن هائلاً، أظهر كاريزمته الواضحة وبراغماتيته التي طرحته خياراً عقلانياً.. في الغالب، استشعر السيسي ذلك مبكراً، حينما هاجمه في لقاء مع الصحافي ياسر رزق فى 2013، وجرى تسريبه لاحقاً، وربما أُعفي رزق بسببه من مهامه مؤقتاً، قبل أن يعود ويطرح فكرة التعديل الدستوري، ويصبح عرّاب فكرة التمديد، ثم يموت بإثمه. ووفقاً للتسريب المتداول، فقد وصف السيسي أبو الفتوح حينها بأنه "إخواني متطرّف".
وتساءل : "واحد زي عبد المنعم أبو الفتوح لو نجح هيعمل معانا إيه؟" فأجاب رزق: بأنه "سيعلقنا زي الذبيحة"! على الرغم من قوله إن "الأستاذ هيكل جلس منذ عام ونصف مع عبد المنعم أبو الفتوح، ووصفه بأنه "رجل مستقيم" .. وختم السيسي وقتها كلامه بقوله: "الإشكالية مش في كده… الإشكالية أن يتولى الأمر ناس مش مدركة حجم ووزن مصر".
النظام هو من يكتب السيناريو ويوزّع الأدوار ويختار الممثلين، ويجبرهم على أداء الأدوار بالكيفية التي يراها
يقدّم أبو الفتوح نفسه على أنه من الإسلاميين المعتدلين، وهو، في كل الأحوال، يلقى احتراماً غربياً، وقد ضاقت جماعة الإخوان المسلمين نفسها بأفكاره الانفتاحية حتى لفظته، فى آخر انتخابات لمكتب الإرشاد، أعلى هيئة في الجماعة، بعد أن لبث عضواً فيه أكثر من عقدين، من عام 1987 حتى 2009. وفى حديثه إلى آلاف من مؤيدّيه، بعد تسلمه أوراق ترشيحه في أوائل إبريل/ نيسان 2012، أكد على أهمية العدالة الاجتماعية مع خطط للتنمية والأمن، وطرح أفكار مستقبلية وتعهدات، انتهت بحصوله على أكثر من أربعة ملايين صوت. وعلى غير العادة، ضمّت حملته الانتخابية مستشارين يساريين وليبراليين وإسلاميين، وحظي بدعم قطاع من الحركات الثورية الشبابية، كما أعلنت دعم ترشّحه رموز فنية وسياسية محسوبة على كل الأطياف السياسية.
من ناحية أخرى، كشف الحكم المغلظ، زيف مزاعم الحوار الوطني، وأكّد أنها مجرّد أكاذيب يلوكها النظام ويتقيأها كلما تعرّض لضغوط خارجية، وأنه يدمن الكذب والالتفاف على وعوده كما يدمن القمع والبلطجة واستخدام القضاء في تصفية حساباته مع مناوئيه ومعارضيه، من دون حمرة خجل، أو ذرة من إنسانية.
الحكم المشدّد على أبو الفتوح ومحمد القصاص ومحمود عزت (78 عاماً) وعشرات الآلاف غيرهم، والتساهل في زج أبرياء في السجون، يشكك في مدى قدرة النظام العقلية، ويغلق نوافذ التسامح، في البلاد، نافذة تلو الأخرى، ويفتح أبواباً للثأر وتصفية الحسابات، عابرة للعواصم، حال سقوطه، خصوصاً وأنه يعاني أزمات جدّ حقيقية تتهدّد وجوده. وهو تأكيد إضافي على أن الحوار الوطني المزعوم مفروضٌ بضغط الخارج، والإعلان عنه لا يرتبط بقناعة، ولا يهدف إلى خفض التوترات الداخلية في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، وأنه مجرّد تمثيلية وبروباغندا مكشوفة، على شاكلة مسلسلات "الاختيار"، فالنظام هو من يكتب السيناريو ويوزّع الأدوار ويختار الممثلين، ويجبرهم على أداء الأدوار بالكيفية التي يراها، ويقوم على حملة الدعاية، لكن الجمهور هنا مختلف.
سهل أن يصنع الطغاة الكراهية، ويبرّرون الحفاظ على نارها مشتعلةً للحفاظ على بقائهم، لكن إطفاء آثارها لا يكون سهلاً
يدلل الحكم أيضاً على ضعف ما تسمّى "الحركة المدنية" المكونة من أحزاب كرتونية، والتي لم يُسمع لها صوت يعلق على الحكم المغلظ على أحد قيادات الأحزاب المصرية، أو يستنكره، والرجل قامة وطنية وقيمة كبيرة. كما تشير إلى استمرار الدائرة الجهنمية التي فرضها النظام ويرفض حلحلتها أو الخروج منها، فأمام بعض الإفراجات المحدودة قياساً إلى أعداد المعتقلين، تجرى اعتقالات جديدة، وتصدر أحكامٌ مشدّدة، تهدم مزاعم أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية. كما يعتبر هذا الحكم رسالة من النظام إلى الفاعلين في الداخل والخارج بأنه لن يُسمح بأي مساحة، في المشهد الحالي أو المشهد الذي يجرى الإعداد له، لأي فصيل سياسي له ظهير شعبي أو قوة جماهيرية، ولو محدودة، أو أي شخصية لها ثقل وفعالية يتطلبها التحوّل الديمقراطي أو أي حل مستقبلي للأزمة.
كتبت، في مقال سابق، أن أشدّ ما يخشاه أي نظام شمولي وقمعي "وجود أشخاص أو أفراد يمثلون قيادات مقبولة لدى المجتمع، عابرين للأيديولوجيا، لديهم رصيد وطني، صوتهم مسموع لدى الدوائر الداخلية والخارجية، وغير ملوّثين بقضايا فساد أو جرائم جنائية"، فحينها يكون الشغل الشاغل لهذا النظام هو العمل على محاولة عرقلة أي وجود لهذه الفئة، وكتم أصواتهم بشتّى السبل، باستعمال أدوات جاهزة، التهديد والقمع والاعتقال وإصدار أحكام بالسجن، كما جرى مع بهي الدين حسن، أو القتل خارج إطار القانون بالحرمان من الرعاية الصحية الأساسية، كما تم مع البرلماني الراحل عصام العريان، وما جرى من بعدهما لعبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص.
من السهل أن يصنع الطغاة الكراهية، ويبرّرون الحفاظ على نارها مشتعلةً للحفاظ على بقائهم، لكن إطفاء آثارها لا يكون سهلاً.