أزمة الديمقراطية الفرنسية
لم يسبق لرئيس فرنسي في تاريخ الجمهورية الخامسة التي أسّسها الجنرال ديغول عام 1958، أن حاز إجماعا على عدم شعبيته من اليسار واليمين والوسط، كما هو عليه إيمانويل ماكرون، وقد تدنّت في أحدث استطلاعات الرأي إلى حوالي 28٪، ما يعادل نسبة ناخبيه في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية قبل عام. والسبب المباشر لانحدار رصيده أنه فرض مشروع قانون رفع سن التقاعد من 62 عاما إلى 64 عاما، وهو بذلك الرئيس الفرنسي الوحيد الذي لم يتراجع أمام ضغط الرأي العام والقوى السياسية والنقابات، ويطوي المشروع كما فعل أسلافه الذين حاولوا تمرير المشروع ولم ينجحوا، لأنهم لم يحصلوا على أكثريةٍ تؤيد مسعاهم. وبدوره، لم يتمكّن ماكرون من تأمين أكثرية تتبنّى المشروع حتى داخل مؤيديه، ولذلك قام بحركة التفافية واعتمد المشروع عن طريق الحكومة، كي لا يواجِه الفشل في البرلمان. ولكن يبدو أنه لم يأخذ في الاعتبار العواقب المترتّبة على ذلك، والتي تشير أدلة كثيرة إلى أنها لن تتأخّر، ومنها ما يبديه المتظاهرون ضد القانون من احتجاجاتٍ ذات طابع عنيف.
يبدو الفشل الذريع قرين الولاية الرئاسية الثانية للرئيس ماكرون، والتي بدأت منذ حوالي عام، ولم يُنجز خلالها سوى تمرير هذا القانون الذي يرى المعارضون أنه سيسجّل له إنجازا سلبيا في عامه الأول، وتبقى أمامه أربعة أعوام لا تبدو ملامحها العامة واضحة، في حين أن البلد يواجِه سلسلة من الأزمات الاقتصادية، وارتفاعا متواصلا في التضخّم والأسعار، وتراجعا سريعا للخدمات والتعليم والصحة والأمن العام. وتبدو حكومة ماكرون باهتةً ومنقطعة الصلة بالشارع، ودورها مُصادر بالكامل من الرئيس الذي لا يريد أن يمنحها حتى صلاحياتها الدستورية، لأن ذلك ينعكس تلقائيا في تفعيل سلطة البرلمان شبه المشلول، كما أن حضور فرنسا على الساحة الدولية تراجع بشكل كبير. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح من خلال غيابها عن المسرح الأوروبي، بعد الفشل الذريع الذي حصده ماكرون من وساطاته لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أجل التوصل إلى حل دبلوماسي في أوكرانيا، وكانت زيارته، أخيرا، إلى الصين مثار انتقادات واسعة من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، لما أظهره من محاباةٍ للصين المتحالفة مع روسيا، مقابل الحصول على صفقاتٍ تجاريةٍ لرجال الأعمال الفرنسيين، حلفاء ماكرون الوحيدين.
يعود الخلل إلى ما تعانيه الديمقراطية الفرنسية من أزمة، يكمن بعض أسبابها في تفسير دستور الجمهورية الخامسة الرئاسي، الذي يمنح الرئيس صلاحياتٍ واسعةً في السياستين الداخلية والخارجية على حساب رئيس الحكومة، الذي يسمّيه الدستور الوزير الأول، لأن رئيس الحكومة الفعلي هو رئيس الدولة، وهو الذي يترأس اجتماع مجلس الوزراء الأسبوعي. ورغم أن الديمقراطية الفرنسية تشاركية تقوم على الانتخابات، ومع أن فرنسا دولة مؤسّسات، فإن الصلاحيات التي يمتلكها الرئيس تبدو فوق ذلك كله، وبالتالي يصبح تجاوز البرلمان أمرا واردا كما هو حاصل اليوم. وبدلا من أن يجلس ماكرون مقيّد الأيدي في ولايته الرئاسية الثانية، لأنه لا يمتلك أكثرية برلمانية يحكم عبرها، وجد لنفسه منافذ وحيلا قانونية تسمح له بممارسة السلطة المطلقة، بعيدا عن رأي المؤسّسة البرلمانية المنتخبة، وصار قانون التقاعد عنوان الأزمة، وشكل المقياس لمدى مصداقية ماكرون، الذي يعتبره الفرنسيون قفزا فوق المؤسّسات الوسيطة بين الرئيس والشعب كالبرلمان والنقابات ووسائل الإعلام، ويبحث الآن عما يسمّى بالسيادة الشعبية من خلال خطاباتٍ عاطفية لاستدرار تعاطف الشارع، وهذا دليلٌ على اهتزاز النظام المؤسّسي بأكمله، وفي حين أن المؤسّسات لم تفقد مصداقيتها، فإن جذر الأزمة يكمن في الإفراط في ممارسة الرئاسة وتضخّم سلطة رئيس الجمهورية ونفوذه، ومصادرة المشاركة الديمقراطية، وهذا يقود إلى نمط من الملكية الجمهورية، ويعمّق أزمة الديمقراطية.