أين الحريرة يا صفيّة؟
ندخل رمضان هذه السّنة، ونحن نجلس على جبل الأسعار، بجيوبٍ ملتهبة. مع تَراكضِ مواد كثيرة إلى الجبل، وأبرزها التي وقع فيها انتفاخٌ تاريخي، وصارت لها همّة وشأن: البصل والطماطم. تخيّل أنّ سعر كيلو البصل تضاعف ثلاث مرّات، وأنّ الناس بدأت تبحث عن بدائل للبصل، مثلما كانت تفعل مع اللحم. وأنّ الأطباق المغربية التي تعتمد على البصل اعتماد البناء على الإسمنت، ليتحقّق لها طعمُها الخُرافي، توشك على الإفلاس، ومغادرة المسرح لصالح أطباق شرقية وغربية، تستغني عن البصل استغناءها عن الخبز. لكنها تقع في فخّ الاعتماد على الطماطم، التي كادت تلحق بالبصل في قمّة جبل الأسعار.
وما العمل مع الحريرة؟ فما من اجتماع أكثر قداسةً وأهمّيةً من اجتماع البصل والطماطم، في الحريرة العظيمة، سيّدة المطبخ المغربي في رمضان. وهي وجبةٌ كاملةٌ وليست مجرّد حساء، أو طبق رمضاني، فهي أقدمُ طبق مؤرَّخ في المغرب، كما أثبت الطبّاخ والباحث الحسين الهواري، عبر وثيقتين مدوّنتين، تعودان إلى حوالي 20 قرناً. وأَوْلى الهواري للحريرة أهمّية كُبرى، إلى درجة تأكيده أن تاريخ المغرب مرتبط بتاريخ الحريرة. وتوافق الوثيقتان المتوفّرتان حول الحريرة، عصري الإمبراطورين الرّومانيين سايلا ونرفا، وحاكم موريتانيا الرّومانية، روتولوس روفوس، بعد نهاية الحرب الرومانية الثالثة. وتتزامن مع فترة التقسيم لـ"موريتانيا الطنجية والقيصرية ونوميديا مع إيبيريا وبلاد الغال"، في دول ضفّتي الشمال والجنوب في المنطقة.
بدأ تناول الحريرة على نطاق واسع، وسط "شعب الجيتول" الأمازيغي، لأسباب طبّية. وعُرفت بشكل خاص عند المصارعين، سعياً منهم إلى "امتلاك" قدرة بدنية أكبر. وسُمّيت الحريرة في شكلها الأول بالأمازيغية "أسكيف"، وهو اسم عملية شرب الأطعمة السّائلة، أي جُرعة أو شُربة. وشكّلت غذاء يومياً كاملاً لسكان المغرب قديماً، سيما في المواسم الماطرة، وأزمنة القحط والمجاعة. خصوصاً عند قاطني الجبال والبوادي والرّحل. وهي طبقٌ سائلٌ منذ نشأته، أي أن الحريرة لم تتحوّل مثل أطباق أخرى، من الجامد إلى السّائل. وكان أساسها الدقيق، ثم لاحقاً صُنعت بالقمح المجروش، وهو طبقٌ لا يزال قائماً، باسم "الحسوة" أو "الحريرة البيضاء"، وهي وجبة قريبة من العصيدة. ثم أُضيفت إلى الحريرة، في طريقها إلى الشّكل الحالي، مع مرور الزمن، أنواع من "القطاني" (الحمّص مثلا) والخضر حسب المواسم والمحاصيل الفلاحية السنوية.
حدث هذا التطور في الفترة الأولى لظهور الحريرة على طاولة المغاربة، لا في القرون المتأخرة كما يذهب بعض الباحثين. لكن تسميتها حديثة، فقد اتُخذت عند وصول بني هلال إلى المغرب، على غرار أسماء غيرها من الوجبات. لتصير الحريرة اليوم، بعد تاريخها الطويل، من رموز المطبخ المغربي. والمفارقة أن الدقيق الذي كان أول مكوّن للحريرة في صباها صار لاحقاً آخر ما يُضاف إليها، ولا تكتمل من دونه. ورغم قدسية مكوّنات الحريرة الأخرى، إلا أن الراحل الحسين الهواري اعتبر "التّدويرَة" الأصل والباقي إضافات. والتّدويرة مرحلة أخيرة في إعداد الحريرة، فبعد نضج المكونات الأولية (اللحم، البصل، الطماطم، الكرافس، الحمص، العدس، والمعدنوس ...)، يُضاف الدقيق المخلوط بالماء والشّعرية، مع التحريك المستمر حوالي نصف ساعة، على نار هادئة، تسمح بانسجام كل المكوّنات لإعطاء الشكل المخملي للحريرة.
يتطلّب إعداد الحريرة زمناً طويلاً، حوالي 90 دقيقة على الأقل، للحصول على مزيج من النّكهات. ولا تشكّل مكوناتها العديدة مصدر القلق الوحيد من الأسعار، فهي رغم غناها لا تُقدَّم وحيدة، بل تُرْفَق مع حلوى الشبّاكية، والبيض المسلوق، والفطائر المالحة والحلوة و"السْفوف" (مكسّرات مطحونة مع دقيق محمص). وهي جماعةٌ من المأكولات تحضر بشكل منتظم، كعصابة منظمة، على موائد المغاربة، في وقت الفطور. ثم يتناولون وجبة العشاء لاحقاً، بعد صلاة العشاء، أو في منتصف الليل، حسب نظام كل أسرة.
وهذا يطرح أكثر من أي وقت مضى، تحدّي القدرة الشّرائية للمغاربة أمام كل هذه الأطباق، والمرافقات التي تصبح فرض عيْن، لا يمرّ رمضان من دونها، فهل يستغني جلّ المغاربة عن الحريرة هذه السنة؟