هل تفلس مصر؟
هل تُفلس مصر؟ سؤال يطرحه مصريون كثيرون هذه الأيام في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة واضطرار الحكومة المصرية للاقتراض من صندوق النقد الدولي للمرّة الرابعة منذ عام 2016، والخضوع لشروطه المؤلمة، بما في ذلك تحرير سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار، وهو ما أدّى إلى تضاعف سعر الدولار أمام الجنيه أكثر من ثلاث مرّات منذ 2016، وهو ما يعني تراجع قيمه الأجور ونزول ملايين المصريين تحت خط الفقر.
أضف إلى ذلك أزمة الديون المتفاقمة التي تعاني منها مصر، في ظل تضاعف الديون، الخارجية والداخلية، منذ 2016، ومنذ أن قرّر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، التوسّع في الاستدانة بشكل كبير للإنفاق على مشاريع تنموية عملاقة وسريعة للغاية، وهو ما أدّى إلى ارتفاع فاتورة سداد أقساط الديون وفوائدها بالموازنة المصرية، حيث تمتصّ قرابة تريليون (ألف مليار) جنيه مصري على أقل تقدير.
واضطرار مصر للجوء لدول الخليج للحصول على مساعدات مالية طارئة قدّرت بحوالي 22 مليار دولار في قيمة ودائع في البنك المركزي المصري (حوالي 14 مليارا) ووعود باستثمارات، كما اشترت الدول الخليجية الداعمة أصولا مصرية في مقابل بعض تلك الديون أو الاستثمارات، حيث أعلن عن شراء الإمارات أصولا تقدر بملياري دولار، واشترت السعودية أصولا بحوالي 1.3 مليار دولار، وذكرت وكالة بلومبيرغ أن قطر تتفاوض مع الحكومة المصرية لشراء أصول ثمنها 2.5 مليار دولار، وذلك في ظل إعلان الحكومة المصرية نفسها في مايو/ أيار الماضي 2022 أنها تخطّط لبيع أصول تقدر بحوالي 40 مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة، وهو ما يعادل بيع أصول بعشرة مليارات دولار كل عام. وهذا يعني أنه سوف يتعين على الحكومة المصرية بيع أصول إضافية بخمسة مليارات دولار في ما تبقى من العام المالي الحالي (يوليو/ تموز 2022 – يونيو/ حزيران 2023).
عجز مصر عن سداد ديونها لا يعد قريبا، وخصوصا بعد توقيع اتفاقية جديدة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد بحوالي ثلاثة مليارات دولار
عزّزت التصرفات السابقة لدى كثيرين الانطباع بأن مصر تُفلس، وأنها دولةٌ مضطرّةٌ لبيع ما تمتلكه، لكي تنفق على احتياجاتها الأساسية، كمن اضطرّ لبيع أثاث بيته لسداد ديونه، وأدّى ذلك إلى سيل من الأسئلة والتعليقات القلقة بهذا الخصوص، وعزّز ذلك تركيز الأصوات القليلة المعارضة المتبقية على الفكرة، وهي إفلاس مصر. وفي الغالب، يقصد هؤلاء بالإفلاس عجز مصر عن سداد ديونها، وانهيار سعر العملة المصرية بسرعةٍ كبيرة، وعجز البنوك المصرية عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه المودعين، وهو سيناريو تكرّر في دول مختلفة، وبعضها مجاور لمصر مثل لبنان. وحقيقة أعتقد أن التركيز على ذلك السؤال غير دقيق أو مفيد لعدة أسباب.
أولا: عجز مصر عن سداد ديونها لا يعد قريبا، وخصوصا بعد توقيع اتفاقية جديدة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد بحوالي ثلاثة مليارات دولار، وهي الاتفاقية التي أعلن عنها في 27 أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي، فالاتفاقية هي بمثابة شهادة ضمان من صندوق النقد الدولي، تفيد بأن مصر قادرة على الإيفاء بالتزاماتها للخارج، وهذا هو أهم ما فيها، فالقرض الذي يقدّمه الصندوق لمصر (ثلاثة مليارات) ضئيل للغاية مقارنة باحتياجات مصر التمويلية، والتي يقدّرها بعضهم بحوالي 40 مليار دولار خلال العام 2023، وهذا يعني أن الصندوق يعتقد أن مصر ستستطيع الإيفاء بكل ديونها في المستقبل المنظور.
ثانيا: واجهت مصر أزمة حقيقية في فبراير/ شباط الماضي، عندما باع بعض الدائنين الأجانب بعض سنداتهم بالعملة المصرية، ما أدى إلى خروج حوالي 20 مليار دولار، وفقا لتقديرات الحكومة المصرية نفسها، في الشهور الأولى من العام الحالي، وهدّد بقوة قدرة مصر على الإيفاء بالتزاماتها في ظل ارتفاع أسعار الوقود والغذاء سريعا بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي ظل فاتورة الدين الخارجي الضخمة، ولكن الحكومة المصرية استطاعت تخطّي الأزمة بفعل بعض المساعدات الخليجية الطارئة، وبيع بعض الأرصدة، وبسبب تحويلات العاملين في الخارج وصادرات الغاز وعائدات قناة السويس والسياحة، والزيادة في بعض الصادرات غير البترولية. وهي التوليفة نفسها التي تعوّل عليها الحكومة المصرية للخروج من الأزمة الراهنة، حيث تتوقع مصر الحصول على قروض ومساعدات تقدر بحوالي خمسة مليارات دولار من دول ومؤسسات مالية إقليمية ودولية (في الغالب خليجية)، في ما تبقى من العام المالي الحالي (ينتهي في 30 يونيو/ حزيران 2023)، وأن تستمر في سياسة بيع الأصول وأن تبيع أرصدة بحوالي 6-7 مليارات دولار في الفترة نفسها، وهو ما أكده وزير المالية المصري محمد معيط في حديث مع تلفزيون بلومبيرغ في 25 سبتمبر/ أيلول 2022، وذلك تماشيا مع خطة الحكومة المصرية المعلنة. كما ستستفيد الحكومة المصرية من ارتفاع أسعار الغاز عالميا، وتحاول مضاعفة صادراتها من الغاز المسال في ظل الاتفاق الثلاثي الذي وقعته مع الاتحاد الأوروبي وإسرائيل في صيف العام الحالي، وهو ما أدّى إلى ارتفاع قيمة صادرات الغاز المصرية بالفعل، كما تعوّل مصر أيضا على الاستمرار في زيادة تحويلات العاملين في الخارج وعوائد قناة السويس، وكذلك عودة السياحة بعد انحسار فيروس كورونا وتنظيم كأس العالم في قطر.
ما يحدث منذ عقود أن مصر تدير تحولا فاشلا نحو الاقتصاد الرأسمالي، يقوم على بيع شركات الدولة لمستثمرين محليين أو أجانب مقرّبين من السلطة
كل هذه العوامل يمكن أن تساعد الحكومة المصرية على الإيفاء بديونها وتثبيت سعر العملة عند مستويات مقبولة في الظروف الحالية، مثل سعر 25 جنيها أمام الدولار في نهاية العام الحالي، وفقا لتقديرات وكالة بلومبيرغ. بل أعلنت الحكومة المصرية سعيها إلى تخفيض نسبة الدين إلى الدخل القومي، والتي تبلغ حاليا حوالي 87% وفقا لتقارير حكومية، ولتبتعد أكثر عن منطقة الخطر حيث يزيد الدين عن الدخل، ويتميّز الدين المصري، وفقا لدراسات مختلفة، بأن نسبة الدين الخارجي لإجمالي الدين قليلة، ونسبة الديون قصيرة الأجل للديون طويلة الأجل قليلة كذلك. ويعني هذا كله أن مصر قد لا تعاني أزمة ديون في المستقبل المنظور.
ثالثا: وهذا يعني أن التركيز على أزمة الديون يغفل طبيعة الأزمة الاقتصادية الحقيقية التي تعيشها مصر حاليا، وأن المواطن المصري والمعارضة المتبقية في حاجةٍ لتخطّي العناوين البرّاقة مثل "إفلاس مصر"، والنظر بشكل أكثر عمقا في جوهر أزمة الاقتصاد المصري، والتي أحاول هنا تلخيصها في نقطتين.
الأولى، أن مصر قد لا تفلس، لكنها بعيدة للغاية عن الإصلاح الاقتصادي المطلوب، فما يحدث منذ عقود (النصف الثاني من السبعينيات تقريبا) أن مصر تدير تحولا فاشلا نحو الاقتصاد الرأسمالي، يقوم على بيع شركات الدولة لمستثمرين محليين أو أجانب مقرّبين من السلطة، من دون القيام بالإصلاحات الحقيقية المطلوبة لتحرير الاقتصاد المصري، وفي مقدمتها بناء دولة القانون والمؤسّسات، ومحاربة الفساد، وتحرير الأسواق من تدخل الدولة وسطوة محاسيب الحكومة، والذين تُباع لهم الأراضي بثمن بخس، ويحصلون على مزايا لا تُحصى، ولا يدفعون ضرائب تُذكر. وفي الماضي، كان المحاسيب مجموعة من رجال الأعمال المقرّبين من أنور السادات ثم حسني مبارك. والآن باتت شركات تابعة للمؤسسات الأمنية الحاكمة (الدولة العميقة) نفسها، فهذا هو السبب الحقيقي لأزمة الاقتصاد المصري.
السياسات الاقتصادية السابقة قرّرت منذ زمن بعيد التضحية بالمواطن المصري، والذي وجد نفسه يتحمّل منذ عقود ثمن أخطاء نظام يوليو 1952
رأسمالية الدولة التي يتبعها نظام يوليو 1952 الحاكم في مصر منذ منتصف السبعينيات هي سبب أزمة مصر الاقتصادية، فهي تقوم على بيع أصول الدولة المصرية، والحصول على مزيد من المساعدات والقروض الأجنبية والداخلية، لإنفاق جزء ضئيل منها على الدعم، وإنفاق أغلبها لشراء ولاء محاسيب النظام لفترة تنعم فيها مصر بمعدّلات نمو عالية بفعل الديون وعمليات البيع، ثم تعود لتواجه أزمة تحلّها بمزيد من البيع والديون. وهو ما حدث بشراهة منذ عام 2016، حيث توسّعت الحكومة المصرية بشكل غير مسبوق في الاستدانة (حوالي 45 مليار دولار سنويا على أقل تقدير)، وأنفقت على مشاريع عملاقة قامت بها بالأساس شركات تابعة للجيش المصري قدّرت صحيفة فاينانشيال تايمز تكلفتها بحوالي 400 مليار دولار، ما حمّل ميزانية مصر ما لا طائل لها به، وأدّى إلى سقوط مصر مرة أخرى في فخّ الاستدانة والبيع والأزمات.
النقطة الثانية وربما تكون الأهم، أن السياسات الاقتصادية السابقة قرّرت منذ زمن بعيد التضحية بالمواطن المصري، والذي وجد نفسه يتحمل منذ عقود ثمن أخطاء نظام يوليو 1952 الداخلية والخارجية. لم يعد هذا المواطن تقدّم له وظائف في الحكومة، أو دعم يذكر، ولم يعد أيضا يحصل على أي تعليم جادّ يساعده في الحصول على دخلٍ يكفيه، ولا على علاج لو تعرّض للمرض. بل بات يتحمّل تكاليف الديون والإنفاق ببذخ على المشاريع والمحاسيب في صورة تراجع مستمر لقيمة العملة المصرية، وهو ما يعني ارتفاع الأسعار وتدنّي قيمة الأجور. بل لا تتوقف الحكومة المصرية عن لومه وتحميله مسؤولية ما يحدث باعتباره كسولا، عالة، غير متعلم، ينجب كثيرا، ويشتكي كثيرا، ولا يمتلك حلا لنفسه أو لمشكلات بلده التي يقوم المسؤولون بجهد إبداعي وخلاق ومهول وغير مسبوق لحلها.
باختصار، قد لا تفلس مصر في المستقبل القريب، ولكن مشكلاتها الاقتصادية تتعمّق وتتفاقم بسبب سياسات الحكومة المصرية التي تقوم على الاستدانة والبيع لإثراء المحاسيب وشراء ولاءات داعمي النظام، وسحق المواطن المصري، ولا يبدو لتلك الأخطاء نهاية في الأفق.