الانتخابات الفرنسية انعطافة سياسية
ليس مُهمّاً أن يَحكُم اليسار في فرنسا، رغم أنّه جاء في المرتبة الأولى، بل أنّ يُهزَم اليمين المُتطرّف الذي حلّ ثالثاً. هذا هو فحوى الرسالة التي خرجت من صناديق الاقتراع مساء السابع من الشهر الحالي (يوليو/ تمّوز)، في نهاية الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية، وعكست ردّاتُ فعلِ فئاتٍ متنوّعةٍ من المجتمع الفرنسي حالةً من الارتياح لعدم حصول حزب التجمّع الوطني على أكثرية نيابية تُؤهّله لتشكيل الحكومة، وبالتالي تطبيق برنامجه الذي أثار مخاوف أوساط واسعة، لأنّه يدفع البلد إلى حافَّة الهاوية، ويمكن أنّ يُولّد انفجارات داخلية متوالية لن تكون الهجرة وحدها المُتضرّر منها، بل الحريّة، والتعدّدية العرقية والثقافية. وقد صدرت تصريحات عديدة في الحملة الانتخابية، عكست وَجْهَاً عُنصرياً، وفظاظةً قاسيةً، تجاه كلّ من يختلف مع هذا التيّار الجارف، لا سيّما الأوساط التي دعت إلى إقامة حاجز في طريقه.
ومن التغييرات الجذرية، التي كان يَعِدُ بها حزب مارين لوبان، تغييرات في السياسة الخارجية، خاصّة تجاه القضية الفلسطينية، وعلاقات فرنسا التاريخية مع بلدان المغرب العربي. وأعلن مُرشّحه لرئاسة الحكومة جوردان بارديلا أنّه لن يعترف بدولة فلسطينية، وهو بذلك يتراجع عن مسار سياسي تاريخي، استند إلى ثوابتٍ تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، منها حقّ الشعب الفلسطيني في دولة مُستقلّة، وخلفية هذا الموقف هي التلاقي مع اليمين الإسرائيلي الحاكم. كما أنّ برنامج الحزب كشف عن وجه معادٍ لأوروبا، والاتفاقات الخاصّة بحرّية تنقّل الأفراد والمُنتجات، بالإضافة إلى العلاقة المتميّزة مع روسيا، التي باتت تحتفظ بعلاقات خاصّة مع أحزاب اليمين المُتطرّف في أوروبا، وعبّرت موسكو عن فرحها بتصدّر "التجمّع الوطني" نتائج الدورة الأولى، على خلاف ما هو مُتعارف عليه في العلاقات الدولية، وهي مُحاولةُ تدخّلٍ صريحةٍ في الشؤون الداخلية لفرنسا.
تُغلّبُ القراءات الأولية للنتائج احتمال أنّ موجة اليمين المُتطرّف انكسرت في فرنسا، وفقدت الزخم الذي اختزنته سنوات عدّة، بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفشلَ الطبقات السياسية الحاكمة في تقديم حلول تتماشى مع التطوّرات التي همّشت الريف والزراعة لصالح اقتصاد العولمة، التي فتحت الحدود من دون مراعاةٍ للخصوصيات المحلّية. وتُؤكّد الدراسات الخاصّة بحركة صعود اليمين المُتطرّف، خلال العقدَين الأخيرَين، أنه استنفد كلّ الإمكانات التي كان يمكن لها أن تُوصله إلى الحكم في فرنسا، ومن ذلك توظيف آلة إعلامية ضخمة من أجل تكسير الخصوم، وصناعة نجوم سياسة وميديا على غرار زعيم حزب الاسترداد العنصري إيريك زمور، الذي لم يفلح في الحصول حتّى على نائب واحد، رغم أنّ قناة سي نيوز وفّرت له منصّةً إعلاميةً مفتوحةً للدعاية والتحريض ضدّ المهاجرين، وترويج الإسلاموفوبيا وثقافة الكراهية.
أهمّية نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية لا تكمن في بعدها الآني فقط، بل في ما تُشكّله من انعطافة نحو مُستقبل مُختلِف تُشكّل فيه الهجرة قيمةً إضافيةً ورافعةً للقضايا العربية، ومنها الفلسطينية، وبما طرحته من قضايا تعطف نفسها على دورة الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 1981، التي أوصلت فرانسوا ميتران إلى الرئاسة، وكانت تلك بداية عهد سياسي جديد اعتمد تسوية أوضاع المهاجرين قانونياً، وفتح الباب أمام الأجيال الجديدة كي تقتحم المجالات الاقتصادية والرياضية والثقافية. ولذلك، تُوجِّه آخر انتخابات رسالةً مُهمّة للهيئات المعنية بالدفاع عن الهجرة يتوجّب التقاطها والعمل بها، وهي أهمّية تجاوز المواقف السلبية وغير المبالية بالتصويت، وتطرح بصورة مُلحّة ضرورة استيعاب درس واجب ممارسة التصويت، ومغادرة السلوك السلبي والمقاطعة، لأنّ ذلك يقود إلى انتخاب مُمثّلين عنهم في البرلمان والمجالس البلدية، يتولّون طرح قضاياهم والدفاع عنهم في وجه حملات العنصرية المُتصاعدة، ومن ذلك التمييز الصريح بينهم وبين بقيّة الفرنسيين على أساس الأصل.