البحر المتوسّط مقبرة للعار
تحوّل البحر الأبيض المتوسّط إلى مقبرةٍ مفتوحةٍ للاجئين الهاربين من الضفة الجنوبية، ولم يتمكّنوا من الوصول إلى الضفة الشمالية. ورغم أن أعداد الضحايا في ارتفاع دائم، وبلغت عشرات الآلاف في عشرة أعوام، لم تتغير سياسات الهجرة التي وضعتها البلدان الأوروبية باتجاه إيجاد حلول تشكل بديلا عن الإجراءات العنيفة لمنع وصول القوارب إلى البرّ الأوروبي، والتي تنتهي أحيانا بغرق المركب بمن عليه، كما حصل في الرابع عشر من شهر يونيو/ حزيران الحالي داخل المياه الإقليمية اليونانية للباخرة التي كان على متنها أكثر من 700 مهاجر من جنسياتٍ مختلفة، غالبيتهم من سورية وباكستان، انطلقوا من طبرق في ليبيا. ورغم نفي أثينا الاتهامات بالمسؤولية عن إغراقها، فذلك لا يعفيها، لأنها تتّبع منذ عدة أعوام العنف من أجل منع قوارب اللاجئين الاقتراب من شواطئها، وتركّز جهودها على اللاجئين الذين يسلكون طرق التهريب من تركيا، بينما تقصد أعداد كبيرة من اللاجئين أوروبا عبر طرق تهريب أخرى أقلّ خطرا، للوصول من ليبيا ومصر ولبنان إلى إيطاليا، التي تحوّلت فيها قضية الهجرة إلى مسألة داخلية، ولعبت الدور الأساسي في وصول حكومة من أقصى اليمين المتطرّف بقيادة جورجيا ميلوني، أخذت على عاتقها منع المهاجرين من الوصول إلى الشواطئ الإيطالية، حتى لو ماتوا في عرض البحر.
يحظى المهاجرون الذين يقودهم قدرُهم نحو الشواطئ أو الحدود اليونانية بأسوأ معاملة، تصل إلى حد إطلاق النار من حرس الحدود وخفر السواحل بغرض القتل، وقد سقط عشرات القتلى من سوريين وجنسيات أخرى، وأعيد المئات من حيث أتوا، عراةً حفاةً بعد تجريدهم من وسائل الاتصال وما يحملونه من أموال قليلة. وحصلت أكثر من محاولة لإغراق مراكب صغيرة للاجئين في بحر إيجة من خفر السواحل اليوناني في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وهناك صور تداولتها الصحافة العالمية، وقدّم لاجئون سوريون شهادات كثيرة عن فظاظة الأمن اليوناني، وصدرت بيانات استنكار لموقف أثينا الذي يتعارض مع الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان. ولم يخفّف ذلك من عنف الشرطة اليونانية، أو يدفع السلطات الرسمية إلى البحث عن سبلٍ أخرى للتعامل مع تزايد أعداد المهاجرين، الذين يتدفقون بلا انقطاع من بلدانٍ تشهد حروبا أو كوارث طبيعية أو مجاعات وظروفا اقتصادية صعبة، كما هو الحال في سورية التي تأتي في الصدارة من حيث أعداد الهاربين من المأساة، في ظل انعدام أي أفقٍ لحل سياسي، يسمح بعودة طوعية وآمنة لملايين اللاجئين.
يجب ألا يمر غرق المركب أمام السواحل اليونانية من دون كشف ملابساته، ليس بسبب العدد الكبير من الضحايا الذي تجاوز 300، من بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، بل من أجل وضع حدٍّ للسلوكيات التي تتبعها السلطات اليونانية والإيطالية، التي لا تحترم حياة لاجئين هاربين من الموت والجوع، فتواجههم بالرصاص وإغراق مراكبهم. وسواء ثبتت التهمة على أثينا أم لا، فإن السلوكيات العنصرية والعنف يجب أن يتوقّفا، ويُصار إلى مراجعة كل اتفاقات الهجرة التي توصل إليها الاتحاد الأوروبي مع دول الجوار في العقد الأخير، كي تضمن للاجئين معاملة لائقة وحقوقا كاملة، بغضّ النظر على أي أرضٍ يقيمون، وهذا أمر لا يمكن أن يعطي مفعولا، إذا لم يقترن بتحرّك فوري، بضمانة منظمات دولية ذات مصداقية، لكفالة حقوق اللاجئين حسب القانون الدولي واتفاقات الأمم المتحدة. ولا يمكن أن يتم ذلك من دون وضع نظام صارم للحد من الهجرة، يجري فيه توزيع عادل للمسؤولية بين البلدان التي يتدفّق منها المهاجرون والاتحاد الأوروبي، بما في ذلك إلزام بلدان المهاجرين بهذه القوانين، وعدم الاكتفاء بإجراءات محاربة التهريب وإغراق المراكب التي حوّلت البحر المتوسّط إلى مقبرة للعار.