البصل أم الحرية؟
يُبكينا البصل إذا قشّرناه أو قطّعناه، ويبكينا إذا غلا ثمنه. لكن لا تُبكينا الحرّية إذا غابت، أو ارتفع سِعرها. تُبكينا قلّة الغذاء، ولا يبكينا غياب الحرّية. هل لأنّنا تعوّدنا على شحّ الحرية على موائدنا، لكنّنا لم نتعوّد شحّ الغذاء؟ فهل مشكِلتنا مع المعرفة أم مع الخوف؟ هل نعرف، بضمير الجماعة، أنّنا نختنق بلا حرّية، أم نخاف أن نصرّح بذلك؟ "كُلّ مكسبٍ في المعرفة يُحرّرني على صعيدٍ ما، ويُضيف إلى الحجم الإجمالي للحرّية التي أتمتّعُ بها"، يقول المفكّر الإنكليزي إيزايا برلين. لكن تبدو المعرفة هنا مُقيِّدة لا مُحرِّرة.
صحيحٌ أن التذمّر من أسعار البصل والطماطم، وكل الخضر، في مكانه، فهي العمود الفقري لكلّ نظام غذائي على الكوكب. لكن هناك ما هو أغلى، وأكثر ضرورةً لحياة الإنسان وكرامته. ولم يُثر غلاؤه ربع هذا الأثر والتذمر. بل صار الحديث عنه همساً واستسلاماً. تُفسّر المسألة الأولى بتبريراتٍ بعضها معقول، ولو أنّها غريبةٌ على البلدان الفلاحية كالمغرب، فالأرض مُقبلةٌ على أيام رمادية مع مشكلات البيئة. ستقلّ، بلا أدنى شك، الموارد الغذائية بالتّدريج، حتى نكتفي منها بأقلّ القليل. وهو واقعٌ لا مفرّ منه. لكن الحرية لا تكلّف مالاً، ولا تؤثّر فيها التغيرات المناخية، ولا ثقب الأوزون ولا التصّحر. ولن تنفد لأيّ عامل طارئ، سوى رغبة السّلطة في إخراس الأصوات المعارضة. مع ذلك تغلو، وتغلو بلا توقّف. وما نعيشه في المنطقة، من غياب تدريجيّ لها مُخيف حقاً. سنعيش، مثل أجدادنا، على موارد بسيطة وسننجو، لكن هل يمكن أن نعيش بلا حرّية؟
الاحتجاجات على غلاء الأسعار معقولة، لكن عدم الاحتجاج على غياب الحرّية غريب. لم تصمت الأصوات، إلى هذه الدرجة، حتى في منتصف عقود القرن العشرين المأسوف على شبابه، كما فعلت الآن. منذ بلغنا سقف الحريات عام 2011، بدأ كل شيء يتقهقر، ووقعنا شرّ وقعة، في حفرةٍ أسوأ من التي كانت، وربما السّقف هو الذي وقع علينا. يصعُب التّحديد حين تُصبح في العتمة، فلا تعرف إن كنتَ أنتَ من وقع فيها، أو أنّها هي التي وقعت عليك. في المغرب، سواء في أواخر عهد الملك الحسن الثاني، أو أوائل ما سُمّي العهد الجديد، خلال العشرية الأولى لعهد الملك محمد السادس، اتّسع هامش الحرية بشكل كبير. وكنّا بالفعل استثناء حتى قبل الربيع العربي. لكن حين غابت شمس الربيع، تضاءلت الحرّيات على جرعاتٍ، بشكل يشبه سحب الدم من كائنٍ حي.
لم يعد المرء يعرف ما هو مسموحٌ به، وما هو ممنوعٌ عليه. فصار الجميع يتفادى كل ما قد يُفسّر ضده، وأول ذلك كل أنواع النقد. وكان الصحافيون أول الضحايا. فوضعت أمامنا نماذج مختلفة، فهناك حدّ للتحقيق الذي يقوم به الصحافي، نموذج عمر الرّاضي. وهناك حدّ للنقد، نموذج سليمان الريسوني. ولأيّ تدوينةٍ على "فيسبوك"، نموذج حنان بكور، وآخرين. وطبعاً لم يسلم غير الصّحافيين من المتابعة بسبب تدوينات، أو آراء جريئة لم تكن سابقاً تؤدّي إلى أيّ ضرر، بل كانت تمرّ بسلاسة، في مناخٍ وافر الحرية. فماذا حدث؟
لعلّها "لعنة" إقليمية، بدأت من مصر التي عرفت قدراً هائلاً من الحرّية، بعد الربيع العربي، ثم ضاقت مع مجيء عبد الفتاح السّيسي تدريجياً. بعدها ضاقت في باقي البلدان مع زوال تأثير الثّورات، وإحكام السّيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي، بقوانين لا ترحم، تفتح مجالاً واسعاً للتفسير والتأويل، لصالح السُّلطة لا لصالح الأفراد. فتختنق المجتمعات، في انتظار لحظةٍ لا أحد يعرف زمنها، كما حدث في الرّبيع الفائت.
ينمو الخوف كالفطر، بلا بذور، وينتشر بشكلٍ متفرّقٍ لا يكاد يُلحظ في البداية، إلى أن تمطر، ويصعد إلى السّطح بلا تردّد. ما العمل؟ نسكتُ عن غلاء البصل ونسعى إلى عسل الحرّية؟ أم نواصل الجلوس في منطقة الآن، ولا نقول حتى: إن الحرّية تغرق. ولا نقفز خلفها في الماء، خوفاً من البلل. لكن حين تغرق الحرية، ما فائدة البصل والفلفل والفاصوليا؟