الجزائر وفرنسا صفحة جديدة
فصل جديد من مسلسل الغرام والانتقام بين الجزائر وفرنسا يجري في هذه الأيام التحضير له، وحصل إطلاق إشارة البدء عن طريق المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يوم السبت الماضي، مع نظيره الجزائري، عبد المجيد تبّون، الذي ظل ينتظر من باريس أن تبادر إلى تبريد الأزمة التي اندلعت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأدّت إلى توتر شديد، وفتح جبهة حربٍ حول الذاكرة بين البلدين اللذين يربطهما تاريخ طويل حافلٌ بالتعقيدات الكثيرة التي لم تسمح، على الرغم من مرور زمن طويل على استقلال الجزائر، بتجاوز التركة الثقيلة التي عمرها من عمر الاحتلال الفرنسي الذي دام 132عاما، وترك آثارا مادية ونفسية فشلت في علاجها الاتفاقات. ولم يتمكّن الوقت من تخفيف مفاعيلها التي بقيت تحفر في الذات الجزائرية الجريحة، طالما أن فرنسا لم تعتذر عن ماضيها الاستعماري. وكان من المفترض أن التقرير الذي قدمه المؤرّخ الفرنسي، بنجامين ستورا، إلى ماكرون قبل عام، أن يهدئ الخواطر بما حمله من مقترحاتٍ لتسوية قضايا الذاكرة، لكنه عوض ذلك ساهم في تصعيد التوتر، وجاءت انتقادات الرئيس الفرنسي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي "النظام العسكري الجزائري الذي قام على إرث كراهية فرنسا" قاسية على الحكم، وهو ما ردّت عليه الجزائر بإجراءات دبلوماسية، منها استدعاء السفير، وتجميد اتفاقات، ومنع الطيران العسكري الفرنسي من التحليق في الأجواء الجزائرية.
الخلافات بين البلدين تتجاوز، في غالب الأحيان، ما هو متعارف عليه دوليا، وتأخذ طابع النزاعات ذات النوع العائلي، ويلعب فيها شخص الحاكم دورا مؤثرا، فالعلاقات بين الرؤساء الجزائريين الذين تعاقبوا على الحكم، هواري بو مدين، الشاذلي بن جديد، وحتى عبد العزيز بوتفليقة، ونظرائهم من الجانب الفرنسي، فاليري جيسار ديستان، فرانسوا ميتيران، جاك شيراك، وحتى نيكولا ساركوزي، ليست على وتيرة واحدة، بل هي في صعود وهبوط، ولعب فيها العامل الذاتي دورا بارزا. ولا تأتي مسألة الشخصنة من طرف واحد، بل هي تكاد تكون موزّعة بالتساوي، طالما أن التاريخ لا يزال يلقي بثقله على كل ما يربط بين البلدين في السياسة والاقتصاد والثقافة والهجرة. ولكن انتقادات ماكرون النظام الجزائري فاقت كل ما صدر عن أسلافه من رؤساء فرنسا، ولم تأخذ في عين الاعتبار ردود الفعل الجزائرية التي أوحت بأنها ستكون ذات تداعيات كثيرة.
تقوم الصفحة الجديدة بين ماكرون وتبّون على المصالحة من باب الضرورة والمصالح، وباعتبار أن تصريحات ماكرون التي تسبّبت بالأزمة كانت ذات هدف انتخابي داخلي، لم يخرج رد تبّون عن سياسة رد الصفعة، وهما إذ يعودان اليوم إلى التلاقي، فإن كلا منهما يدرك أنه لا يملك حلا للمعضلة التاريخية. وعليه أن يفصل ما بين التاريخي والراهن، وبالتالي، فهما مضطران لأن يعيدا المياه إلى مجاريها، وها هي الأزمة التي كانت تنذر بأنها سوف تطول، تشهد اليوم تنفيسا سريعا، كما جرت العادة في حالاتٍ سابقة كان التوتر يبلغ فيها درجة قصوى، ولكنه سرعان ما يتبدّد بمكالمة هاتفية ودعوة لزيارة الرئيس الجزائري باريس، وترتيب برنامج حافل له، وسط احتفاء إعلامي يدغدغ المشاعر ويمتصّ فورة الغضب. وتمكّن ماكرون الماكر من تهدئة خواطر تبّون في لحظة يحتاج فيها الرئيس الجزائري الأضواء الإعلامية، بعد التصعيد بين الجزائر والمغرب وصدور إشارات من باريس توحي بأنها تقترب من صف الرباط في قضية الصحراء، وهي بذلك تقتدي بموقف إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، والذي صدر في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، واعتبر خطة الحكم الذاتي للصحراء التي يتبنّاها المغرب "جادّة وجديرة بالثقة والواقعية".