الخطاب الحقوقي للسيسي
تقوم فلسفة حكم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، على أن الشعب هو الذي استدعاه، على غير رغبته، لكي يقوده ويحكمه، لذا فهو غير مطالَب بتبرير أفعاله وشرح سياساته وتفسير أفكاره، وعلى الشعب أن يقبل، في كل الأحوال، قراراته، راغباً أو مجبراً. وتنبع تلك الفلسفة النرجسية المتعالية المرضية، من الخطر الكبير الذي عرّض السيسي نفسَه له إبّان انقلاب 3 يوليو، فلو فشل الانقلاب، لسقطت رأسُه معه، لذا سيظل يحصد ثمار نجاح انقلابه حتى ينتهي وجوده، هكذا يعتقد.
فى أشهر الخدمة العسكرية التي مررنا بها، تختفي كلمة الحقوق أو الإنسانية أو المألوف من القاموس، فكل شيء يحرّكه هوى ورغبة الرتبة أو الدرجة الأقدم، لا قانون ولا قيم ولا ثوابت، هذا ما يترسّخ فى عزلة الكهف بين قوانين الغاب الممتدّة، والتي تنتهي بتكلّسات لا تبرأ، في العقول والسلوك. لذلك لم يكن العسكر فى بدايات الانقلاب مضطرّين لتبرير قمعهم لحقوق الإنسان، ولا ارتكابهم عشرات المجازر، ولا القتل بدم بارد، بل تجاوز ذلك المعسكر الذي شيطنوه وبنوا على سيل دمائه استراتيجيتهم، لينال البطش معسكرهم الداعم، ثم قادتهم وزملاءهم.
في البداية، كان خطاب حقوق الإنسان الوارد مع ثورة 25 يناير، غريباً على من تربّوا على جدران سلطة القمع وكانوا أدواته، كما كان غريباً، أيضاً، على من قاموا بالثورة، لذا فرّطوا به سريعاً.. وضع النظام معادلة القمع بموازاة ظاهرة الإرهاب، وكأنها لازم وحيد لاستئصاله. كان الخطاب الخارجي المتصلب يقوم، في المجمل، على رفض أيّ ضغوط خارجية في ملف حقوق الإنسان، والتذكير بقوة بادّعاءات ما تقدّمه مصر، وحدها، من تضحياتٍ فى مجال مكافحة الإرهاب نيابة عن العالم بأسره! ودورها الفاعل والذي يتوجب حمده، في منع الهجرة من الجنوب إلى الشمال. مع التشدّد فى فرض مرجعية أو المقارنة أو تصدير نموذجٍ معين للقياس. إضافة إلى التعامل الفردي مع الدول المركز، من خلال بعض المزايا وصفقات الأسلحة ومنح المناطق الاقتصادية، والتي كانت كافيةً للفت الانتباه عما يؤسّس في القاهرة من قهر وعنف وكراهية. أما خطاب الداخل فلم يتجاوز الحديث عن إنقاذ الرئيس الدولة من تداعيات ثورة يناير التي كادت أن تغرقها فى عالم الفوضى والخراب، ومشروعاته العملاقة، وجلبه الاستقرار مقارنة بدول الجوار.
ربما فرضت الضغوط على النظام، أخيرا، أن يبرّر أفعاله، أو يفصل بين المقدّمات التي ادّعاها والنتائج التي وصل إليها. لذلك كان رد فعل الرئيس على انتقادات وجهت إلى بلاده في منتدى شباب العالم في شرم الشيخ قبل أيام، انفعالياً. وعلى الرغم من أن التساؤل جاء فى سياق محاكاة وتمثيل، لكنه لم يقبل به، فمنذ ثماني سنوات، لم يجرؤ صحافي مصري أن يطرح سؤالا كهذا في حضرته.
وضع النظام معادلة القمع بموازاة ظاهرة الإرهاب، وكأنها لازم وحيد لاستئصاله
كان دور هذه المشاِركة التي أثارت الجدل فى المحاكاة أن تطرح هذا السؤال بهذه الكيفية، لكن الإحساس بحجم الجريمة ربما أخرج الرئيس عن شعوره، ووضعه في قفص الاتهام المجازي الذي يبدو أنه يمثل له كابوساً، فقد يقف فى قرينه الحقيقي يوماً، لُيسأل عن جرائم يشيب لها البشر! "نشعر بالقلق من حالات الاعتقال التعسّفي والاختفاء القسري وقمع المجتمع المدني وانتهاكات للسجناء .."، كلمات محدودة تطلبت ثلث الساعة لدحضها من ممثل مصر بتهافتٍ غير مقنع، ما استلزم تدخل الرئيس، ليفاقم الأزمة. اعتبرها السيسي ادّعاءات، وتحدّث عن إطلاق استراتيجية حقوق الإنسان، على الرغم من انفصالها عن الواقع. وكرّر القول إن حقوق الإنسان لا تقتصر على الحقوق المدنية والسياسية فقط مع أهميتها، وأن توفير فرص العمل وحق السكن والرعاية الصحية والتعليم المناسب، حقوق أصيلة من حقوق الإنسان، وأنها تمثل تحديات للدولة المصرية. وقال إن مصر حريصةٌ على حقوق الإنسان من منظور فكري! مؤكّدًا أن التنوع والاختلاف هما سنّة كونية بين الدول لا يستطيع أحد تغييرها، مشدّداً على خصوصية الرؤية المصرية للحقوق والحريات، فيما يَعتبر الاختلاف فى وجهات النظر، داخلياً، أو التباين مع رأيه ورأي السلطات جريمة عقوبتها السجن سنوات.
بالجمل نفسها، تحدّث رئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي مع "برنامج بلا قيود" على "بي بي سي" في أثناء المؤتمر، والذي بث يوم الأحد 16 يناير 2022: "لا بد من أن نعي أن ظروف الدول مختلفة، وبالتالي عندما ننظر إلى قضية حقوق الإنسان لا بد أن نضع في اعتبارنا أيضًا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والسياسية"، مشيرًا إلى المعايير التي تطبّق في دول متقدّمة لا يمكن تطبيقها في دول المنطقة لظروف معينة! وقبل هذا الحديث بساعات، كان عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، أنور السادات، يناقض هذا الخطاب الموحد، و يعلن أن السلطات القضائية والنيابة العامة تبحثان حالات المحبوسين احتياطياً، تمهيدا للإفراج عن عدد منهم خلال أيام قليلة!
إلغاء السلطات المصرية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في مناخ يكاد يرقى إلى مستوى الإفلات التام من العقاب
لم يكن الرئيس ولا نظامه، بمن فيهم وزير خارجيته، يكترثون قبل، بالحديث عن حقوق الإنسان، ولكن ردّات الفعل عبّرت، هذه المرّة، عن قلق عارم. وكان الرئيس سئل، في ديسمبر/ كانون الأول 2020 فى الإليزيه، عن مسألة "اعتقال مدونين وصحافيين وناشطين مصريين" كان ردّه "لا تنسوا أننا في منطقة مضطربة". وهذه المرّة أعاد التكرار أن بلاده فقط نجت من بين كل الدول المجاورة من الخراب، وطلب 50 مليار دولار سنوياً لكي يسمح لشعبه بحق التظاهر والتعبير عن رأيه، وكأن المجتمع الدولي مطالبا بأن يدفع له على الدوام. وفي 16 سبتمبر/ أيلول 2021، نشرت منظمة العفو الدولية (Amnesty)، وهيومن رايتس ووتش والمعهد الدنماركي لمناهضة التعذيب (DIGNITY)، بالتعاون مع كوميتي فور جستس (CFJ)، والمفوضية المصرية للحقوق والحريات (ECRF)، ثلاثة تقارير، تضمّنت أن ممارسات جهاز الأمن الوطني أدّت إلى إقامة "نظام إرهابي" يسعى إلى إسكات جميع العاملين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. وإلغاء السلطات المصرية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في مناخ يكاد يرقى إلى مستوى الإفلات التام من العقاب.
وسط هذا المناخ المتردّي، يرمي الرئيس أزماته في ملعب الغرب، قال: "أنا مسؤول عن إحياء 100 مليون نفس والحفاظ عليهم، وهذا أمر ليس باليسير". وكلمة الإحياء هذه ربما تدخل القاموس السياسي للمرة الأولى، فقد تجاوز وزير الدفاع المصري السابق حدود صلاحياته بوصفه بشرا، واعتقد أن الإحياء والرزق من مهام عمله، على الرغم من إصراره على إلغاء الدعم التمويني – (لا يتجاوز 50 جنيهاً لأربعة أفراد حدّا أقصى) كاملاً، ورغبته العارمة فى رفع سعر الخبز، ووضعه الملايين تحت حدّ الفقر سنوياً بسياساته الرأسمالية المتوحشة، وشهيته للاقتراض. وأضاف: "هل أنتم مستعدّون كأصدقاء أوروبيين ودول مهتمة بحقوق الإنسان أن توفروا لنا ذلك؟ مستعدّون لتوفير توأمة لجامعات مصرية مع جامعتكم المتقدّمة لتقديم نوع من التعليم الجيد الذي يناسب متطلبات العصر". "هل أنتم مستعدّون لنقل جزء من الصناعة إلى بلدنا حتى نوفر فرص عمل لأكثر من 65 % من شعبنا من الشباب؟ هل أنتم مستعدّون تعملوا ده؟ ولا إحنا بنطالب فقط القيادة السياسية الموجودة في الدول توفر المعايير التي تتصوّرها؟ أنا أتصوّر أننا محتاجين شكل أعمق للنقاش والحوار ما بيننا"! ظ
لم توفر سياسات القمع للشعب طعامه بأريحية، واعترف الرئيس، هذه المرّة، بأن الشعب فقير لا يخرج من منزله إلا للعمل بجد ليوفر قوت يومه. على الرغم من ذلك، وصل عدد السجناء والمعتقلين على خلفية قضايا سياسية إلى 65 ألف سجين ومعتقل، توفى منهم حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2020 حوالي 1058 شخص، بحسب منظمة "كوميتي فور جستس (Committee For Justice).
بخلاف الأزمات المالية والاقتصادية، يشير التغير في خطاب الرئيس المصري إلى الخارج، أخيرا، إلى نوع من الهلع
بخلاف الأزمات المالية والاقتصادية، يشير التغير في خطاب الرئيس إلى الخارج، أخيرا، إلى نوع من الهلع، يبدو من صوته وكلماته التي يحاول أن يخرجها بعفوية، فتخرج جبراً ما يؤكّد أن انتهاكات حقوق الإنسان هي الملف الوحيد ربما الذي يحاصره ويضغط على رقبته ويحجز أنفاسه. وقد جعل هذا التغيير النظام يطلق "الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان 2021-2026" جبراً، على الرغم من عدم تفعيلها، وساهم فى الإفراج عن عشرات المعتقلين، بعضهم بأمر مباشر وقرارات فوقية، مثل رامي شعث وباتريك جورج وعلا القرضاوي، وبعضهم جاء تخفيفا للضغوط. كما أدّى إلى تغيير المجلس القومي لحقوق الإنسان ( عدا ثلاثة أعضاء)، ووضع أنور السادات وفريق الحوار الدولي داخله، على الرغم من تصريحاته بشأن الاعتقالات والإخفاء القسري، والتي قد تُؤخذ على النظام لا لصالحه. وكذلك إلغاء حالة الطوارئ، على الرغم من التلاعب القانوني والتشريعي الذي أعقبها. وهذا يلقي بتبعات إضافية على العاملين فى هذا الملف، فمزيد من الضغط سيمنح مزيدا من الحقوق والحلحلة، مع الإيمان بأن الجهود تؤتي ثمارها، ولو بالتركيز بالضغط على السلطات المصرية للانضمام إلى الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، ووضع إطار تشريعي يجرّم تلك الممارسة، وكذلك الضغط لتحسين أوضاع الاحتجاز لحماية السجناء من الحرمان من الرعاية الصحية وسوء المعاملة، والإفراج عن كبار السن وذوي الأمراض المزمنة.
إنما النقاش هنا بشأن قضايا تحسين الأوضاع وليس تيبيض السجون، ما يعبّر عن طبيعة الأزمة وتوحش النظام. لكن "بي بي سي" بثت، أخيرا، مكالمات للرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، وهو يتحدّث مع أركان نظامه في أثناء فراره إلى العربية السعودية، بضغط جماهير ثورة الياسمين التي افتتحت الربيع العربي، وبدا وهو يتساءل فى هلع: هل أعود مجدّداً وهم ينصحونه بالتريث، حفاظاً على أمنه.. "لا، لا، لا، الوضع يتغير بسرعة والجيش لا يكفي". .. تؤكّد التسريبات حقيقة المستبدّ الذي هيمن على نظام قمعي مخيف قرابة 23 سنة، وقد تحول إلى إنسان مرتبك تحت رحمة تعليمات وزرائه في لحظاته الأخيرة في السلطة، فبداخل كل دكتاتور صارم فأر مذعور.