السودان... الجريمة المنسيّة
في ذروة الانشغال العالمي كلياً بالعدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، هناك حربٌ ومجزرة منسية تحدث في السودان، حيث مليشيات الدعم السريع تفتك بالمدنيين، قتلاً واغتصاباً وتهجيراً، وسط غياب شبه تام للتغطية الإعلامية أو الاهتمام الدولي. فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي، تصدر قطاع غزّة الشاشات العربية والغربية، وكان محور الزيارات المكّوكية التي أجراها دبلوماسيو العالم، وهو ما استغلّته الأطراف الداعمة لمليشيات الدعم السريع لتسليحها وتقوية شوكتها ضد الجيش النظامي، ما انعكس انهياراً سريعاً لقوات الجيش في عديد من المناطق السودانية، في مقدّمتها ثاني أكبر المدن بعد العاصمة الخرطوم، ود مني، والتي تعيش كارثة حقيقية لا يلتفت إليها الكثيرون، وحتى ربما غالبية المواطنين العرب لا يعلمون ما يحدُث فيها، في ظلّ غياب المشهد السوداني عن الشاشات العربية والغربية، واحتلاله حيزاً بسيطاً في المواقع الإخبارية، مع كثافة الأخبار الآتية من قطاع غزّة، والتطوّرات المتسارعة، سياسيا وميدانيا، للعدوان هناك.
جولة على بعض الحسابات السودانية في مواقع التواصل الاجتماعي كافية لنقل صورة ما يحدُث في مدينة ود مدني تحديداً. مليشيات الدعم السريع توثق انتهاكاتها، مدركةً أن لا أحد يلتفت إلى ما تفعله في الفترة الحالية، ولا أحد يهتم بمحاسبتها. مشاهد التنكيل بالمواطنين السودانيين تمرّ أمامك سريعاً، وحتى فيديوهات لعمليات اغتصاب. المواطنون السودانيون دشّنوا على مواقع التواصل الاجتماعي حملة "حماية نساء ود مدني من الاغتصاب"، وباتوا يتداولون قصصاً حول بحث النساء في ود مدني عن حبوب منع الحمل أو حبوب الإجهاض، أو سؤالهن عن شرعية الانتحار قبل وصول عناصر "الدعم السريع" إليهن. نساء كثيرات وثقن بشهادات ما تعرّضن له على يد المليشيات، وتحدّثن عن حالات "اغتصاب جماعي". وهذا الأمر لم يبدأ الآن في ود مدني فقط، بل كان سلاحاً تستخدمه المليشيات في كل المعارك منذ بداية الحرب الأهلية في السودان التي اندلعت في إبريل/ نيسان من العام الحالي، ومستمرّة إلى أمد غير معلوم.
هذه الانتهاكات، تضاف إليها عمليات التهجير القسري التي يعاني منها المواطنون السودانيون، في غياب شبه كليٍّ للمساعدات العربية والدولية، فخلال الأيام الماضية، وتحديداً منذ 18 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، وهو تاريخ سيطرة مليشيات الدعم السريع على ود مدني، نزح نحو 500 ألف سوداني من منازلهم في المدينة إلى المدن القريبة، والتي قد لا تكون بعيدة أيضاً عن اجتياحات مليشيات "الدعم السريع" المزهوّة حالياً بتحقيقها "انتصاراً ساحقاً" على قوات الجيش التي انهارت سريعاً في ود مدني، وهو ما سيدفع هذه المليشيات إلى تكرار فعلتها في مدنٍ ثانية.
يجادل بعض السودانيين بأن إهمال ما يحدُث في بلادهم، عربياً وغربياً، يعود إلى اعتبارهم جزءاً من القارّة الأفريقية المعتادة على العيش في صراعاتٍ طويلة، بشكلٍ تحوّلت معه هذه الصراعات إلى روتينية. السودان نفسُه عاش حرباً كهذه مدة قاربت عشرين عاماً، في الصراع بين الشمال والجنوب، والذي أدّى، في النهاية، إلى انفصال الجنوب في عام 2005. تلك الحرب كانت تحمل قضية، قد تختلف أو تتفق معها، وهي رغبة الجنوبيين في تقرير مصيرهم، وربما هذا ما جعل الاهتمام فيها أكبر، على عكس الصراع العبثي الحالي القائم على تنازعٍ على السلطة بين الحليفين السابقين، العدوين الحاليين، قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان وزعيم مليشيات الدعم السريع محمد حمدان دقلو.
لكن بغضّ النظر عن أسباب الحرب وخلفياتها، هناك جريمة منسيّة تحصل في السودان، تحتاج أيضاً إلى اهتمام دول العالم والمنظمّات الإغاثية وإدانة الداعمين المعروفين لمرتكبي الانتهاكات اليومية في المدن السودانية.