العاشقات منيعاتٌ على الغرق
اشترى شاه زاده لزوجته تذكرة فريدة من نوعها، لرحلةٍ إلى موطن إحدى أجمل القصص الرّومانسية المعاصرة، سفينة تيتانيك، بـ 250 ألف دولار. لكن الحب الذي دفع شاه زاده ليشتري التذكرة كان أيضاً سبب تنازل كريستين عن تذكرتها لابنها سليمان الذي كان متشوّقا بدوره، لرحلةٍ ثمينةٍ على متن غوّاصة. فودّعت كريستين حبيبَيْها، وهي لا تعرف أنّها آخر مرّة تراهما فيها. شاء فيلم تيتانيك أن يُنقذ ليز، فيما يغرق حبيبها جاك مع باقي غرقى السّفينة. وشاءت الأقدار أن يغرق الحبيب في تيتان، وتنجو الحبيبة بمعجزة.
عن هذا المنحنى، يقول الفيزيائي الأميركي برايان غرين في كتابه المهم "حتى نهاية الزمن"، "يستعصي تطوّر حياة منفردة على التنبّؤ، رغم أن المصير النّهائي لأيّ حياة معروف وحتمي". لا أحد من ركّاب غوّاصة تيتان كان يتوقع هذه النهاية المأساوية، فرغم أن الهدف ليس شائعاً، لكنه غير مستحيل. عشرات غيرهم توجّهوا إليه، وعادوا منه بسلامة. رغم أنهم جميعاً كانوا على وعيٍ بخطورة الوضع، لكنهم اختاروا المغامرة، وأخذوا بعين الاعتبار نِسب السلامة، لا نسب الهلاك. ما الذي يجعل الإنسان يُقدم على مغامرة نسب مخاطرها أكبر من نسب السلامة فيها؟
قد نفهم بعض المغامرات التي تقلّ نسبة خطرها عن 20%، مثل قيادة السيارات الرياضية في الحلبات، لأن لديها معدّات أمان. في المقابل، من يقود درّاجة نارّية أو سيارة، بسرعة جنونية في طرق جبلية كمغامرة، هو فاقد الإحساس بالفرق بين المغامرة والإلقاء بالنفس إلى التّهلكة. مع ذلك، تتعدّد سبل إيجاد بيئات للخوف، تحمل للمغامر شعوراً هائلاً بتدفّق الحياة في عروقه، بعد نجاته منها. لكن هناك نسبة مئوية للهلاك، حتى لو بلغت 1%، تبقى هائلة، لمن هو ضمن هذه الـ1%. لكن جهله بلؤم الاحتمالات يدفعه إلى الواجهة، ليهلك فداء لـ 99%.
هل الدافع الذي قاد المغامرين الأربعة في تيتان هو السّعي إلى المغامرة اللّحظية؟ أو لدخول التاريخ، وترك أثر قد لا يعبر عن أي صفة أخرى عدا الشّجاعة والتهوّر؟ مع أن هناك آلاف الاحتمالات لترك أثر لا يقود حياة المرء إلى الهاوية. يعاني هؤلاء من الفراغ النفسي، ليُلقوا بحيواتهم هكذا في الفراغ، من أجل بضع جرعاتٍ من الأدرينالين. يفسّر غرين ذلك بأننا "نتاج سلالةٍ طويلةٍ هدّأت فزعها الوجودي بتخيّل أننا نترك وراءنا أثراً. مستشهداً بالفيلسوف الأميركي روبرت نوزيك "إن الموت يمحوك ... وذلك المحو التام لك ولآثارك، يعني بدرجة كبيرة تدمير معنى حياة المرء"، خصوصا لمن لا يملك توجّها دينياً، والذي يتفاقم لديه القلق الوجودي تجاه معنى الحياة وأثرها. ترك أثر يقابله احتضان ذروة الحياة وفورتها، وشعور العائد من الموت. وكل المغامرات الخطرة في العالم تسعى إلى هذا الهدف: النّجاة من الخطر الشديد. لكنّها نجاة وهمية، لأنها تأتي بعد رعونةٍ وتهورٍ حملا المغامر إلى الخطر.
تتعدّد طرق "الخوف المضمون العواقب"، الذي يقدّم إثارة هائلة، مثل القفزة الحرّة المرعبة. لكن إجراءات السّلامة تجعل الخوف مجرّد تدفّق عال للأدرينالين. وما تقدّمه من بهجة لخوض تجربة قاتلة لكنّها آمنة. الإنجاز هو في تجاوز الخوف الذي لا تهمّه الضمانات. العقل هو الذي يهتم بالإجراءات لحماية النفس من نتائج هذه المغامرة التي تدغدغ الخوف وتتغلّب عليه. "تتناول رواية دون كيخوته توق البشرية إلى الفعل البطولي".
يتحدّث الجميع عن مدى ثراء المسافرين بلا عودة. مع أنّه يندُر أن نرى أحد الأثرياء المغامرين المقاتلين بحيواتهم يمنح ماله كله إلى المحتاجين، ويبدأ من جديد. أليست مغامرة حقيقية؟ لن تقتله هذه المغامرة، بل يمكن أن يعود بعدها سريعاً إلى الثراء، لأنّه يعرف كيف جمع المال أول مرّة. وفكرة التخلّي الإرادي وحدها ستدرّ في دمه جبالاً من المشاعر المتطرّفة، التي يسعى إليها. على الأقل، لو كتب مغامرو الغواصّة وصايا تمنح أموالهم الطّائلة إلى جمعيات خيرية، بدل أن يأخذها بعض المحظوظين من عوائلهم حلالاً زلالاً، بلا جهد ولا استحقاق، لكان حكم الناس على مصيرهم مختلفاً تماماً.