المغامرة الأوكرانية
في وقت تترقب منطقة الشرق الأوسط احتمالات توسّع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة ليشمل لبنان، اعتماداً على رد حزب الله وإيران على الاعتداءين اللذين طاولا الضاحية الجنوبية لبيروت وطهران، تستعر في مكان آخر احتمالات انزلاق الحرب الروسية على أوكرانيا إلى مواجهة عالمية لا تحمد عقباها.
التحوّل الكبير في الحرب حدث الأسبوع الماضي، توغّلت القوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية، وفرضت سيطرتها على مساحات واسعة في منطقة كورسك الروسية، ما شكّل سابقة منذ الحرب العالمية الثانية، إذ لم تشهد الأراضي الروسية اجتياحاً منذ محاولة الجيش النازي احتلال الاتحاد السوفييتي.
من غير الواضح ما إذا كانت العملية الأوكرانية لم تحظ بضوء أخضر من الدول الغربية التي سارعت إلى النأي بنفسها عن التخطيط أو التنسيق لهذا الهجوم، رغم أن مسؤولين أوكرانيين أكّدوا أنه جرى بعد التشاور مع الحلفاء الغربيين. تناولت تحليلات كثيرة هذه النقطة، أشار بعضها إلى أن الخطوة الأوكرانية جاءت منفردة، وذلك رداً على المعارضة الغربية لاستخدام الجيش الأوكراني الأسلحة المتقدّمة التي أرسلتها الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية، وأن كييف وضعت حلفاءها أمام الأمر الواقع الذي لا يمكنهم الهروب منه.
ويبدو أن كييف نجحت في مسعاها، فرغم التقارير عن انزعاج الحلفاء الغربيين من الخطوة الأوكرانية، إلا أن المسؤولين الأميركيين والأوروبيين سارعوا إلى تبرير الهجوم بأن الأراضي الأوكرانية كانت تتعرّض لهجمات من منطقة كورسك الروسية، وأن من حقّ أوكرانيا الدفاع عن نفسها. حتى أن المسؤولين الأميركيين برّروا لكييف استخدام السلاح الأميركي، واعتبروا أن هذا الاستخدام "معقول". الأمر نفسه بالنسبة إلى ألمانيا التي دعمت الخطوة الأوكرانية، وعبّرت عن استعدادها لمواصلة الدعم العسكري الذي تقدمه لها.
من المفهوم أن هذا التعاطي الأميركي والأوروبي مع الهجوم، رغم معارضته، يأتي لإظهار تماسك التحالف الغربي في مواجهة روسيا، وأن الاجتياح لن يغير من الدعم المطلق الذي تحظى به أوكرانيا من حلفائها. غير أن ذلك لا ينفي ارتفاع منسوب القلق من رد فعل موسكو تجاه احتلال أراضٍ روسية، واللجوء إلى أسلحة غير تقليدية أو توسيع مدى الحرب، خصوصاً أن الرئيس الروسي فلاديميير بوتين اتهم الدول الأوروبية مباشرة بالتخطيط والتنسيق لهذا الهجوم، وهو سبق أن هدد باللجوء إلى الترسانة غير التقليدية للدفاع عن الأراضي الروسية من الضربات الصاروخية التي كانت تتعرض لها.
القلق أيضاً من التمادي الأوكراني في خطته الهجومية داخل الأراضي الروسية، مدعوماً بحملة الدعم الغربية. هذا التمادي تمظهر بإعلان كييف تحويل كورسك إلى منطقة عازلة لتفادي الضربات الروسية داخل الأراضي الأوكرانية، ما يتطلب وجوداً طويل الأمد للقوات الأوكرانية في العمق الروسي، وهو ما لا يمكن أن تتغاضى عنه موسكو، والتي لا شك تحضّر لهجوم مضادّ واسع النطاق لاستعادة المناطق التي تسيطر عليها القوات الأوكرانية. ورغم أن هذا الهجوم سيكون مكلفاً لروسيا التي تعيش أزمة اقتصادية عميقة نتيجة العقوبات الغربية، إلا أن بوتين لا يمكن أن يسمح بخسارة الهيبة العسكرية التي راكمتها موسكو منذ تسعينيات القرن الماضي، واختبرتها أخيراً في الحرب الأوكرانية، حتى وإن كان يترقّب وصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى السلطة، وما سيُحدثه من تغيير في الموقف الأميركي من الحرب.
الرد الروسي اليوم يقتصر على تكثيف الهجمات داخل أوكرانيا، لكنه قد لا يكون الردّ الأساسي على المغامرة الأوكرانية باحتلال أراض روسية. مغامرة من غير المعلوم إلى أين ستؤدّي، وما هي التبعات التي قد تشهدها أوروبا، وربما العالم، في الفترة المقبلة.