انتفاضة الجامعات… فرصة للتدخل
كثيرة الفرص التي سنحت في الأشهر الماضية لتعديل وجهة الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، خصوصاً مع استمرار جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، غير أنها جميعها ضاعت في ظل غياب رؤية سياسية عربية وفلسطينية لمخاطبة العالم الغربي. بدايةً ربما من محكمة العدل الدولية وما شهدته من مرافعات عالمية كانت جميعها في خدمة القضية الفلسطينية، لكن أحداً لم يفلح في استثمارها سياسياً حتى ضاعت مع التطورات الميدانية والسياسية في القطاع، والأحاديث عن "الأيام التالية"، وشكل الإدارة الفلسطينية التي يمكن أن تتولّى شؤون قطاع غزّة في مرحلة ما بعد الحرب. ومع هذه الأحاديث تراجع "الحلّ النهائي" للقضية الفلسطينية، مع استمرار غياب الهيكل الموحّد الذي يمكن أن يمثل الكل الفلسطيني في أي فكرة لما يسمّى "إنهاء الصراع".
اليوم أيضاً، ها هو حراك الجامعات الأميركية، والذي بدأ يتوسّع إلى دول أوروبية عدة، يستعر رفضاً للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، في غياب أي دور عربي سياسي أو اقتصادي داعم لحراك هؤلاء الطلاب، أو مساهمٍ في كفّ يد الجامعات عن قمع الجيل الغربي الشاب في التعبير عن رأيه. كثيرة هي مجالات التدخّل، في حال وُجِدت الإرادة لذلك، وهي للأسف يبدو أنها غير متوفرة، رغم أهمية التأثير في الجامعات الغربية إذا أردنا تعديل السياسات الدولية، كما يفعل الأثرياء المؤيدون لإسرائيل. ويمكن إعطاء مثال على ذلك في تلويح مليارديرات ورجال أعمال أميركيين بارزين، مثل روبرت كرافت وليون كوبرمان، بوقف تبرعاتهم لجامعة كولومبيا الأميركية، وسط تصاعد التوتّرات في الحرم الجامعي، وهو ما يمثل ضغطاً على الجامعة، وغيرها من الجامعات لزيادة ضغطها على الحراك الطلابي خشية خسارة ملايين الدولارات التي يؤمنها هؤلاء المتبرعون.
ومن المعلوم أن الجامعات الأميركية تعتمد على التبرعات بدرجات متفاوتة، حيث تحتاج المؤسّسات الخاصة عادةً إلى سد فجوة تمويل أكبر تُغطى بالتبرعات مقارنة بالجامعات الحكومية، وبالتالي فهي تكون رهينة في قراراتها وبرامجها، بدرجة غير قليلة إلى رغبات المتبرّعين، وهو ما أظهره حديث كرافت خلال إعلانه نيته سحب تمويل جامعة كولومبيا، حين أشار إلى "أهمية توفير الأمان لجميع الطلاب وأعضاء هيئة التدريس اليهود في الحرم الجامعي".
في مقابل هذا الواقع، هناك غياب تام للأثرياء العرب والمسلمين، أميركيين وغير أميركيين، عن مشهد دعم الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية، ربما لغياب الإرادة أو افتقار التنظيم، فالحد الأدنى، في حال توفرت القناعة لدى هؤلاء بعدالة الاحتجاجات الطالبية وقدرتها على التأثير، هو على الأقل الإعلان عن إمكان سدّ فجوات التبرّعات في الجامعات التي قد يحدثها سحب مساهمات رجال الأعمال المؤيدين لإسرائيل. مثل هذا الإعلان، وليكن استعراضياً في مرحلته الأولى، من شأنه أولاً أن يخفف من الضغط على الطلاب المحتجين، ويدفع الجامعات إلى التفكير مرتين قبل اتخاذ إجراءات في حقهم، وثانياً إظهار أن هناك سنداً حقيقياً للقضية الفلسطينية، ممكن أن يترجم على شكل مساهمات عينية تدعم، على الأقل، حق الداعمين للقضية الفلسطينية في التعبير عن آرائهم بحرية.
غير أن مثل هذا الإعلان أو المبادرة لم يظهر، رغم مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على الاحتجاجات في الجامعات الأميركية، والتي تقدّم رؤية متفائلة لما يمكن أن تحمله الأجيال الجديدة، خصوصاً في الولايات المتحدة، من أفكار تقدمية لا تزال مؤمنة بالعدالة الدولية ورافضة الظلم. هؤلاء يمثلون أملاً في تغييرٍ، ولو على المدى البعيد، لصالح الحقوق الإنسانية. لكن هذا التغيير بحاجة إلى مساندة ودعم، حتى لا تضيع مجدّداً فرصة الاستفادة من تبدل الرأي العام العالمي.