انفجار بيروت: التصدّع يتمدّد
قبل ثلاث سنوات، اهتزت العاصمة اللبنانية، بيروت، على وقع انفجار عدّ الثالث تاريخياً من حيث القوة، بعد القنبلتين الذرّيتين على هيروشيما وناكازاغي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية. انفجار بيروت، الذي بات يُطلق عليه انفجار المرفأ، لم يكن وليد تفاعلات ذرّية، أو تجربة سلاح جديد أرادت إحدى الدول الكبرى اختبار فاعليّته، بل جاء نتيجة تركيبة من الإهمال والفساد والتواطؤ أنتجت تفاعلاً كيميائياً مع مركبات نترات الأمونيوم التي كانت مخزّنة في أحد عنابر المرفأ، لتولد الانفجار الكبير الذي أودى بحياة أكثر من 220 شخصاً وخلّف آلاف الجرحي لا يزال كثيرون منهم يعانون، إضافة إلى الدمار الذي لا يزال جزءٌ منه ماثلاً في كثير من الأحياء البيروتية التي تأثّرت بعصف الانفجار.
جاء الانفجار في فترة كان فيها لبنان في مرحلة بداية الانهيار الاقتصادي، والتي ترافقت مع تظاهرات شعبية عارمة أطلق عليها حينها "ثورة تشرين". كان من المفترض، في أي دولة طبيعية، أن يؤدّي مثل هذا الحدث الجلل إلى تلاحم داخلي واستنفار لكشف أسباب الكارثة التي حلّت بالبلاد، قبل الوصول إلى الكارثة الاقتصادية الحالية. لكن، وبما أن لبنان ليس من الدول الطبيعية، ولا يبدو أنه سيكون في الفترة القريبة، ما حدث كان عكس ذلك، فالانفجار خلّف حالة جديدة من الانقسام وإلقاء المسؤوليات، وتم توظيفه في الصراعات السياسية الداخلية، هذا إضافة إلى نسج نظريات مؤامرة حوله، بعضها لا يزال قائماً ويردّده مسؤولون وإعلاميون، على غرار ربط الانفجار بغارة إسرائيلية على مرفأ بيروت، حيث كان حزب الله يخزّن أسلحة، وأن فداحة الانفجار وآثاره دفعت المسؤولين الإسرائيليين واللبنانيين (حزب الله تحديداً) إلى إنكار أي دور لهم في الانفجار، رغم الدحض العلمي والأمني لهذه النظرية.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحد في ما يخصّ الانفجار التحقيقات حوله، إذ اصطفّت معظم القوى السياسية، والتي كانت متخاصمة ومتصارعة، ضد نتائج التحقيقات التي كانت تبحث عن المسؤولين عن تخزين هذا الكم من نترات الأمونيوم والمسؤولين عن إدخاله، والذي عرفوا بوجوده وتجاهلوا الأمر، فالنتائج أظهرت أن رؤوساً كبيرة في الدولة كانت على علم بوجود هذه الكمّية الكبيرة من المواد التي من الممكن أن تكون شديدة الانفجار، وعلى دراية أن طريقة التخزين تحمل مخاطر كثيرة على السلامة العامة، وأن انفجارها قد يؤدّي، على الأقل، إلى تدمير المرفأ، إذ لم يكن ممكناً لأحد أن يتوقّع حدوث مثل هذا الانفجار الذي أحدث هزّة أرضية وصلت ارتداداتها إلى قبرص.
اليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات على هذا الانفجار، يبدو أن الصّدع الذي أحدثه في الداخل اللبناني لا يزال يتمدّد، فإضافة إلى أن التحقيقات توقفت، وأن أحداً لم يحاسب إلى اليوم، فإن لبنان غارقٌ في أزمة اقتصادية وسياسية لا يستطيع الخروج منها، ولا يبدو أن أحداً في طريقه إلى المساعدة، خصوصاً بعد الأداء السياسي اللبناني الذي ترافق مع التحقيقات حول الانفجار. فرغم التعاطف الكبير الذي نالته الدولة اللبنانية على المستوى العالمي بعد الحدث، امتنع الجميع عن تقديم المساعدة في ظل التسييس الذي تم التعاطي فيه مع الانفجار وتحقيقاته، والأمر لا يزال قائماً، فيما المسؤولون اللبنانيون ليسوا في وارد التنازل عن منظومة الفساد والمحسوبية، والتي أوصلت البلاد اليوم أيضاً إلى فراغ رئاسي وحكومي، وحتى برلماني، في ظل عدم قدرة مجلس النواب على الالتئام مع تطيير نصابه عند كل جلسة.
التصدّع الأخطر اليوم على المستوى السياسي عودة الحديث عن سيناريوهات كانت متداولة إبّان الحرب الأهلية، وبالأخص الفيدرالية، التي باتت مطلباً يتحدّث به بعض السياسيين والمثقفين، على اعتباره مخرجاً للبنان من الأزمة الحالية، رغم أنه لن يغيّر من معطيات تركيبة الفساد والمحسوبية شيئاً سوى حصرها في نطاق جغرافي أضيق.