جرَش .. مدينة مضادّة للزمن
لا شيء يشبه خطواتك في مدينةٍ بناها أناسٌ ذابت عظامهم في الأرض. مع ذلك، لا تزال عظمتهم قائمة، تشهد على ما لم يظن الإنسان، هذا الكائن الشّقي والسّاعي نحو كلّ شيء، أنه قادرٌ على بنائه، وتحدّي الفيزياء هندسةً تعتمد على سواعد جبّارة لرفع هذا العمود، أو ذاك الجدار. ومهما رأيتَ من صورِ لمدينةٍ أو سمعت من كلام يصفها، فلا يشبه الدّخول إليها وتلمّس جدرانها وتفاصيلها.
قليلة هي المدن التي تترًك فيك أثراً لا يُمحى، منها مدينة جرش الأثرية في الأردن. فهي تشعرك أنّك تسافر في الزّمن إلى مكان لا يُشبه غيره على الأرض. مكان قديم قدم الزّمان، وعظيم عظمة الحياة نفسها.
وإذا كانت المدن تولد وتموت، فجرش وُلدت ولم تمت، رغم آلاف السّنين التي عاشتها، منذ تأسّس أول حجرٍ فيها. تشهد الأعمدة والجدران والسّاحات، والمدرجات والمسارح والحمامات، على أسلوب حياة يقترب من معنى أن تعيش، لا أن تحيا فقط. أن تعيش للجمال والفنون، وتقتحم قوانين الجاذبية بأبنيةٍ وصروح ليس من السهل بناؤها بأدواتٍ بدائية، مقارنة مع الوسائل الحديثة للبناء.
لم تنبت جرش فجأة من بيت، أو مجموعة بيوت تحوّلت إلى حيّ ثم منطقة ثم مدينة، بل هي مدينةٌ وُلدت كاملةً وطويلة العمر، واحدة من أكثر مواقع العمارة الرّومانية المحافَظ عليها في العالم، خارج إيطاليا. وحتى يومنا هذا، لا تزال الشّوارع معمّدة ومعبّدة، والحمامات والمسارح والسّاحات العامة والأقواس في حالة استثنائية. وداخل أسوار المدينة الباقية، عثر علماء الآثار على أنقاضِ مستوطناتٍ يعود تاريخها إلى العصر الحجري، ما يدلّ على أن الاستيطان البشري في هذا الموقع، يمتدّ إلى أكثر من 7500 سنة، لتكشف جرش عن مثالٍ رائعٍ للتطوّر المدني عند الرومان، في المنطقة. تحافظ جرش أيضاً على مزيج من الطّابعين، الشرقي العربي والغربي، في آن، وتعكس هندستها المعمارية فترة تعايش ثقافتين قويتين مع التقاليد القديمة للشرق العربي.
يحكي الزّوار والسياح عادة عن مآثر المدن وأصدقائهم فيها، أو البسطاء الذين رحبوا بهم. وإذا كانت مآثر جرش والأردن غنيةً عن الذكر، فإنّ الناس يتشابهون بين دول المنطقة من مغربها إلى مشرقها، وما من جديد في الموضوع. لكن الصّداقة والطعام أمران لا يتكرّران، فكل مدينة تحمل طابعها الخاص، ولكل شخص تجربة مختلفة معها.
من إقامتي في عمان، أحببتُ الكنافة التي لم يسبق أن ذقتُ مثلها، فحلويات عمّان حيث يختلط الفلسطيني مع السوري، وتذوب الفوارق بين أهل الشام كما تذوب الحلويات، وتغوص بآكلها في عوالم من اللذّة، كما في الإعلانات التي تروّج الحلويات ومشتقاتها، فتنفصل عن الواقع وتدخل عالم البرزخ. لن تصبح شخصاً خارقاً سريع القدمين والذهن، لكنك تتخدّر كلّياً بالمتعة، وهو شعورٌ قد يدّعي مجرّبو المخدّرات أن لا مثيل لما يقدّمه المخدّر والقرص من انتشاء. لكن الحقيقة أن متعة الحلوى الشرقية تفوقها، لأنّها لا تُشعرك بالذنب أو الانفصال العقلي أو الروحي (كما أفترض بما أنني لم أجرّب، لكنني جرّبت خدر البنج وخدر الألم) بل أنت هو أنت، لكن طعم الحياة والجو والناس صار مختلفاً.
أظن أن الحلويات هي تاج المطبخ المشرقي. أما الطبخ في حد ذاته، والأطباق التي تصل بك إلى حقول أخرى من أرض اللذة، فإنّها مسألةٌ شبه محسومة لصالح المطبخ المغربي. رغم أن الأطباق المشرقية تتمّيز بخفّتها، وعدم اعتمادها على الدهنيات باستثناء عائلة المنسف، الذي اكتشفت أنه عائلة ممتدة من الأطباق المكوّنة من الأرز واللحم، مختلفة الأسماء، لكنها تتقارب فيما بينها حتى تتطابق.
أما الصداقة ففي الأردن من الشعراء والكتاب عدد كبير منهم، مقارنة مع عدد السكان. شعراء وشاعرات مثل مها العتوم، مريم الشريف، زياد العناني، موسى الحوامدة، إبراهيم نصر الله. وإعلاميون جاء بعضهم من باب الرواية وآخرون أبدعوا للصحافة لا شريك لها فيهم، معن البياري، جعفر العقيلي، أحمد الطراونة، مخلد بركات... هؤلاء، أمثلة قليلة لما يقدّمه الأردن، وهو بلد يكاد يخلو من الموارد الطبيعية، ويقف في منطقةٍ هشّةٍ كثيرة الأزمات، تضع ثقل الهاربين من جحيمها عليه. لكن الأردنيين جبارّون في هزم الطبيعة بالعقل، بالتّعليم، بصنع أشياء كثيرة تعتمد على الإنسان، وهو الوطن الحقيقي والذهب الأغلى، والمورد الأغنى، والبناء الأكثر دهشة وجمالا.