جنبلاط والنظام السوري
قرّر رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط أن يتقاعد من العمل السياسي، الذي انخرط فيه على نحو مباشر منذ مقتل والده الزعيم كمال جنبلاط على يد جهاز الأمن السوري في عام 1977 بأمر من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد. وقد بدأ السياسي المخضرم انسحابا تدريجيا منذ خمسة أعوام، ونقل مهامه إلى نجله تيمور، في ظروفٍ لا تختلف كثيرا عن الظروف التي تسلّم فيها الزعامة من والده، في أوج اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية، حينما كان الأسد حاسما في التحكّم بها، وتوجيهها نحو ما يناسب مصالحه، ويحقّق مشروعه السياسي الخاص لحكمٍ مديد في سورية، يصبح فيه لبنان تحت الوصاية. ولم يكن سهلا على ابن الثامنة والعشرين أن يخلف والده، الذي تجاوز حضوره ودوره ومكانته وعلاقاته لبنان ليبلغ العالم العربي، ويتخطّاه نحو الشرق والغرب، من الصين والهند حتى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وأوروبا، ليس رجل سياسة فحسب، بل مثقفا، وفيلسوفا، وشاعرا.
كان على الشاب وليد، الذي لم يسبق له أن اقترب من العمل العام قبل اغتيال والده، أن يتصرّف بسرعة، ويجد حلا للمعادلة الصعبة قبل أن يتجاوزه الحدث. توجب عليه، في الوقت نفسه، ألا يقف في وجه الأسد فيلقى مصير والده، ولا ينحني أمامه كليا، ويفكّ التحالف بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، الذي بناه الأب مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وقادة الحركة الوطنية اللبنانية، ومنهم بالخصوص الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن إبراهيم، والأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي. ومن دون شك ساعده كل من عرفات ومحسن إبراهيم على مواجهة الامتحان الصعب بحكمةٍ وشجاعة، ولذا سرعان ما غيّر الشاب، خرّيج الجامعة الأميركية، الصورة التي كانت مُتداوله عنه، وهي أنه بعيد عن عالم الأب السياسي والثقافي، ومنصرفٌ إلى شؤونه الذاتية أكثر من اهتمامه بالعمل العام. وبدلا من أن تتحقّق التوقعات بفشله، نجح في الظهور بمظهر اللاعب المحترف، الذي يتحلّى ببراغماتيةٍ وقدرةٍ على المناورة، والتعامل مع التطورات المتسارعة، في ما يخصّ الحرب اللبنانية والعلاقة مع الأسد والمقاومة الفلسطينية، فلم يُعاد الأسد ولم يكسر التحالف مع عرفات.
عوامل محلية وإقليمية ودولية ساعدت جنبلاط على أن يبرز زعيما متميّزا، يتسلح بالجمع بين تراث والده والزعامة الدرزية التقليدية، والثقافة الغربية الحديثة، ولكن ما جعله يعيش حياة سياسية مديدة وسط محيطٍ ملتهب، وصراع مصالح دموي، قدرته على المرور بخفّة بين الألغام، رافعا راية لبنان التقدّمي وعلم فلسطين، ومهارة خاصة في المناورة مع النظام السوري، الذي صادقه حينا، وعاداه حينا آخر، وكانت علاقته مع الأسد الأب تختلف عنها مع نجله بشّار الأسد، الذي ناهضه على نحو مفتوح منذ اغتيال حليفه وصديقه رفيق الحريري في عام 2005، ولا يزال على موقفه منه. وكان في وسعه أن يقدّم دعما للثورة السورية بوسائل مختلفة، إلا أنّه لم يتجاوز الخط الأحمر في حساباته مع النظام وحزب الله، الذي تحالف معه أكثر من مرّة في السابق، ضمن معادلاتٍ محكومةٍ بالقوة والجغرافيا والمصالح.
يغادر جنبلاط مسرح العمل السياسي في لحظةٍ مهمّة، تتمثل في التطبيع العربي مع النظام السوري، ويظهر بوضوح أنه التقط رسائل صريحة إلى أن هذا التطوّر لا بد أن يلقي بآثاره على الوضع في لبنان، على نحوٍ لا يناسبه أو يمكنه التعامل معه سلبا أو إيجابا. ولذا فهو يترك هذه المهمة لنجله الشاب، كي يتعاطى معها بطريقةٍ قد لا تختلف عن تلك التي اتّبعها عندما كان عليه أن يغلق صفحة اغتيال والده، لصالح فتح صفحةٍ جديدةٍ مع الرئيس السوري حينذاك.