حافظ الأسد بين الرعوش
في الأمثال الشعبية السورية؛ يقال لمن يَحفر الأرض، أو الجدران، بحثاً عن كنز، عندما يخيب أملُه: طلع ثقبك على خراب. هذا ما حصل لمعارضي حافظ الأسد يوم العاشر من يونيو/ حزيران 2000، فالرجل مات، وهم فرحوا، وشعروا، لأول وهلة، أن كابوساً عمره ثلاثون سنة أزيح عن كواهلهم .. ولكن مثلاً شعبياً آخر يقول للمستعجل: أنت تخطف الكأس من رأس الماعون. يجيب المواطن المنتشي بموت ديكتاتوره: قل ما تشاء، فقد فرحت، وسأفرح .. وهنا يصطدم بمثل شعبي يقول: راحت الحزينة تفرح، ما لقت مطرح، ففي لحظة موت حافظ الأسد كان جيشُه العقائدي ومخابراته وشبّيحته ونبّيحته مستنفرين، يراقبون أفواه المواطنين، ورسائلهم، وهواتفهم. لذا راح كارهوه يموّهون فرحتهم؛ يتصل الواحد منهم بصديقه الذي يثق به، ويواعده خارج المنزل، وعندما يلتقيان يتعانقان، ويتباوسان، ويتبادلان مشاعر الفرح والشماتة، ويذهب مواطن آخر إلى صديقه من دون اتصال هاتفي، يقرع عليه الباب، وعندما يخرج يقول له: مبروك، الزلمة مات "وكانوا يستخدمون كلمات من قبيل: فطس، نفق، انقلع.. إلخ".
ولكن، ما مضى إلا وقت قصير، حتى باخت مشاعر جميع السوريين المتفائلين بالخلاص، "وراحت السَكرة، كما يقول المثل، وجاءتْ الفَكرة". ووقعنا على رؤوسنا نكساً، إذ وجدنا كل شيء مخطّطاً له، ومرتباً بما يجعل الولد القاصر بشار الأسد يستولي على الحكم بسلاسة، لتُمْنى سورية، من ثم، بأسوأ رئيس، وتعيش أفظع فترة في تاريخها المعاصر الذي بدأ مع خروج العثمانيين من سورية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1918، فخلال 21 سنة التي انقضت على بدء التوريث، تحوّل ربع مباني سورية إلى ركام، وهُجّر ثلث شعبها بعدما قتل منهم مليونا، وأُجّرت المنشآت الاقتصادية لروسيا وإيران لنصف قرن من حساب السنين، والحبل على الجرّار.
كان حافظ الأسد، على قولة المثل الشعبي، مثل القطط، بسبع أرواح. تعرّض لأول إهانة في بداية حكمه حينما زار مدينة إدلب، وكَالَهُ أحد المواطنين بفردة تاسومة (أسوأ أنواع الأحذية وأرخصها). وبعد ذلك بسنتين تقريباً أصدر دستوراً يخلو من فقرة تحدّد دين رئيس الجمهورية، فخرج ناسٌ في مظاهرات احتجاج، واضطر لإصدار توجيهٍ بإضافة الفقرة المذكورة. وفي أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، ومع ضربات جهاديي الطليعة المقاتلة المنشقين عن جماعة الإخوان المسلمين، لمس حافظ على رأسه وقال، في لقاء تلفزيوني، وهو يتمسكن، إنه فلاح، ويمكن أن يرجع، إذ لزم الأمر إلى أرضه .. ولم يقل ماذا سيفعل في الأرض، على عكس شقيقه رفعت الذي أراد، فيما بعد، أن يتباهى بذكائه الحاد وثقافته الموسوعية، فقال إنه حصل على شهادة الدكتوراه، وهو "يرعى الجدايا بين الرعوشِي، حوشي جْدَيَّاتك حوشي".. واهتزّ حكم حافظ أكثر عندما مرض وأوشك على الهلاك، في 1983، وقام الدكتور رفعت، "راعي الجدايا ما غيره"، مطالباً إياه بالكرسي، لئلا يأخذه غريب، فاستفاق حافظ، وتنفض، واتجه نحو العافية، وحشد قواته، ووالدتَه، وشقيقه جميلاً، ووزير دفاعه طلاساً، وقادة فرقه وألويته، وبدأ الحفر تحت رفعت حتى أجبره على الفرار، كما كان يقول الناطق العسكري التابع لحافظ كلما تعرّضت مواقعنا الصامدة لقصف عسكري إسرائيلي.
تعرّضت سورية، منذ سنة 1949، أي بعد ثلاث سنوات من خروج القوات الفرنسية، إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية التي اتسمت كلها بالفشل. الداهية حافظ الأسد تمعّن في الظروف التاريخية التي أدّت إلى إخفاقها، فوجد أن انقلابات حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي أجهضت لسببين: المناخ الديمقراطي الذي ساد في تلك الفترة، وضعف مؤسسات القمع التي يقبض عليها صاحب الانقلاب. أما انقلاب حزب البعث 1963، ومن بعده الشباطيون 1966، فسقطا بسبب تمسّك بعض الانقلابيين بالمبادئ. الحاكم القابل للاستمرار عنده هو القوي، الفاشستي، البعيد عن أية مبادئ، أو مشاعر إنسانية، أو أخلاق.