حبسة الأيام والكلمات والبُرغر
في مرّات قليلة، أجدُ نفسي غير قادرة على خطّ جملةٍ واحدة، في مقالٍ أرغب في كتابته. لا يكفي أن أفكّر في موضوع، أو أن أرغب في الكتابة عنه. بل يجب أن يكون المزاج ملائماً لذلك، وأن تكون لي زوايا متعدّدة للنظر إلى الموضوع، بحيث تنفتح شهيّتي للكتابة. وهي حالة قد يسميها بعضهم حبسة الكتابة، لكنّها حبسة الإبداع لا حبسة الكتابة اليومية، التي يُنظر إليها مهنة فقط لا غير، مثل الصّحافة والمقالات والزوايا، فهي مهام عملية يؤجر عليها الكاتب، ولا تخضع للمزاج، لأنها تعتمد على حسّه العملي، وقدرته على بناء موضوع متكامل.
ولكنني لم أنظر يوماً إلى المقال هذه النّظرة البراغماتية، التي تزعم عقلنَة جهد الكاتب فيما قد يُعدّ موادّ قابلة للاستهلاك المحدود زمنيا، مثلما هي الوجبات السّريعة خفيفة من دون طعم حقيقي. لكن الوجبات السريعة تُستهلك في سبيل إرضاء الحاجة البيولوجية للغذاء. بينما القراءة حاجةٌ فكريةٌ حتى لو ارتبطت بالعاطفة. لذا يستغرق مني المقال أكثر من يوم أو يومين، من أجل إنهائه بإيقاعٍ طبيعي، يُرضي نسبيا توقعاتي منه. وأي مقالٍ لا يأتي عن فكرةٍ تمثل هوساً آنياً تجاه سؤال أو موضوع، لا يمكنني كتابته.
هناك حبسة الذاكرة التي نُعاني منها بدرجات، مثلا أنني بدأتُ كتابةَ المقال، وخطَرت لي حُبسة الممثل بروس ويليس، لكنّني نسيت اسمه رغم أنه حاضر بقوة في ذهني. لولا "غوغل" الذي استعنتُ به لاستحضار اسمه، لمرَّ حديثٌ كامل، أو مقال، من دون الاستشهاد بالعزيز النبيل بروس ويليس. لكن حبسة بروس تحضر فقط كإسقاط بعيد، لأنه اضطراب مرضي خطير يؤثر في طريقة التواصل، والكتابة، وفهم اللغة المنطوقة والمكتوبة. تحدُث الحُبسة عادةً بشكل مفاجئ بعد التعرّض لسكتة دماغية، أو إصابة في الرأس بورم بطيء النمو في الدماغ. ويحتاج المُصاب إلى إعادة تعلّم المهارات اللغوية، وممارستها والتعرّف على طرق أخرى للتواصل.
يُعتبر مرض الحُبسة حالة مدمّرة، تُفقد المريض القدرة على التواصل، ويجد صعوبة في الكتابة والكلام، وفي إيجاد الكلمات. فيستخدمون كلمات خارج السّياق، ويتحدثون بطريقة متقطعة ومتعثّرة، أو ينطقون بجمل قصيرة أو غير كاملة. كما في وسعهم اختلاق كلمات لا معنى لها واستخدامها في كلامهم أو كتاباتهم.
أحيانا أقسم أنني لا شك أعاني من الحُبسة لا الحَبسة، لأن الأعراض السّابقة تحضر بكامل مِشمشها وتُوتِها، فترة وجيزة، فتُحدث أثراً شبيها بالأولى، ولو هُنيهات. طبعاً إيقاع الحياة الحالي الذي لا يكاد يتوقف عن الركض في كل الجهات لا يُقصّر في دفعك إلى حُفَر الحبسات. وما أكثر أسباب المقاطعة، حتى وأنت تحاول فعل ما فعله سلفك القديم، الذي كان يقوم بشيء واحد فقط، ولا يبدأ غيره إلا بعد أن ينتهي منه، بعد أن تسمح أحوال الطقس والمسافات والقدرة الجسدية والعقلية ... وهذا ما لا يحدث الآن.
جميعنا نرغب في فعل أكثر من شيء، ولا أحد منا يحترم حدوده الجسدية أو العقلية. نحاول التفوّق وفعل كل شيء، لذا ينتهي بنا الأمر في حالاتٍ كثيرة ونحن عاجزون عن القيام بأبسط الأشياء، وهو ربط جملةٍ بأخرى، أو إيجاد كلمةٍ تعبر عنا. أو فهم ما يريد الذي أمامنا قوله. لسنا أغبياء ولا ضعفاء، بل مُجهدون ومستنزَفون. وهي حبسة أخرى تحدُث، لكن فقط حين تكون متعبا، فتشعر أنك خارج السّياق، لأنك مهما فعلت تظلّ عاجزا عن التجاوب والاستيعاب، فالعمل والحياة يضعانك أمام فوّهة الآخرين، وعليك التظاهر بأنك في كامل قواك العقلية، وهذا مستحيل، لكنك مُكرهٌ لا بطل. فتفعل ما يطلب منك، وهو أن تكون حاضرا جسديا حتى يرفع عنك اللوم. ولا يهم إن انتشرت إشاعاتٌ عن غبائك الذي يناقض ما عرف عنك.
كتبت هذا المقال لأنني وجدت نفسي أمام هذه الحبسة، وما من فكرةٍ خطر لي أن أكتبها، ووجدت عندي حماسا لها، أو حتى رغبة في كتابة مقالٍ كامل عنها. فكانت الحبسة الموضوع الوحيد الذي وجد عندي تجاوبا، وداويْتها بالتي هي الداء، فالحبسة بالحبسة، وإن عادت عدنا.