حياتنا المُفخّخة بالأنظمة السلطوية
إذا لم تُحرِّر مزلاق الأمان في المسدّس فستنفجر الرّصاصة في يدك، وستكون أنتَ الهدف لا غيرك. بالمنطق نفسه، علّمتنا الأحداث أنّ الذي لم يصنع سلاحه وآلاته كلُّها لن يضمن عدم استعمالها ضدّه، وأنّ إجهاض التعليم لحماية الأنظمة السلطوية هو سبب نهايتها، فإسرائيل نموذج العدوّ "الافترائي"، لم تُفخِّخ أجهزة التواصل وحدها في حربها على لبنان، بل فخَّخت كلّ آلة كهربائية، مثل حكاية فانتازيا الخيال العلمي "المتحوّلون"، التي تحوّلت فيها الخلّاطات الكهربائية وآلات صنع القهوة وأجهزة التلفزيون والراديو كائناتٍ قاتلةً.
لهذا، المشهد التدميري، الذي أخرجته إسرائيل بتفجير أجهزة الاتصال والأجهزة المنزلية، بقدر ما كان صادماً في إجرامه، إلا أنه ليس خارقاً في فكرته، فالقتلة المحترفون لا يحتاجون أسلحةٍ عادية مثل الهواة وعابري القتل، فهم قادرون على تحويل أيّ شيء سلاحاً؛ مزهريةً، منحوتةً فنّيةً، كأساً زجاجية أو مقلاةً. وإذا كانت أبسط عناصر الحياة قد اختُرِقت، فما بال الأسلحة التي تشتريها بلدان المنطقة بالـ"هَبل" لتُخيف أعداءها (غالباً دول ببؤسها السياسي نفسه). هل تظن أنّها صافية من أيّ أثر؟ ألّا تشكّ لحظةٍ في أنّ هذه الدّول التي باعتها إيّاها قد وضعت احتمال وقوع حرب معها؟ هل ستبيعها أسلحةً سليمةً من كلّ إمكانية للتدخّل عند الحاجة، لتفجير البندقية في يد حاملها، والصّاروخ في حضن مُطلقه؟
نستغرب أن يذهب العدو بعيداً في خططه الإجرامية، لكنّ الفكرة غير غريبة. هل نذكّر بما كشفه إدوارد سنودن، الشاب الأميركي الذي هَجَر مخابرات بلاده بسبب برنامجٍ يتجسّس عبر باستخدام كاميرات مدسوسة في الأجهزة الإلكترونية؟ وإذا كانوا قادرين على رؤية ما يفعل الآخرون، فكيف لا يستطيعون القتل من هناك أيضاً؟ ... تراهن كاتبة هذه السطور على أنّ لدى إسرائيل هذه الخطّة في أماكن أخرى، لكنّ أهدافها لم يُعرف بعد أنّها على بُعد ضغطة زر.
يصنع حزب الله جزءاً من أسلحته، ويحصل على بعضها من إيران، لكنّه لم يتخيّل أنّ الأجهزة المدنية ستصبح أسلحة ضدّه، وإلّا لصنعها بدل أن يُدخل حصان طروادة بيته. هنا يُطرح السؤال عن دوره في الدولة والمجتمع؛ ماذا فعل ليبني لبنان المجتمع والدولة؟ فالحزب ليس مُجرَّد منظّمة عسكرية تحرس الحدود مع عدوّ غاشم، بل هو تنظيم سياسي له قاعدة اجتماعية وسياسية واسعة.
هو نموذج آني لورطة المنطقة العربية، التي يُطرح عليها السّؤال بإلحاح، رغم أنّه سؤال لا تُعفَى منه دول كثيرة: أين كانت حين كانت الدول والمجتمعات تستثمر في تعليمها لتصنع ما تحتاجه، حتّى لا تكون هدفاً سهلاً؟ ... لا تستطيعين صناعةَ الأسلحة، يا أنظمة مأسوف على شعوبها! فاصنعي إذاً هاتفاً أو جهاز تلفزيون، أو خلاطّاً أو حتّى عجّانةً، واستغني كلّياً عن المُستورَد، إذا كنتِ ذات بأس كما تزعمين، لا ذات بُؤس كما نزعم نحن.
"القتلُ الذكي" يخدم القتلةَ عن سبق إصرارٍ وترصّدٍ امتدّ ثلاثة أرباع قرن، أمّا أصحابُ القضايا فلا يخشون وضع حياتهم على المحكّ لتصفية عدوّ. كذلك يحرص أصحاب القضايا على تجنّب تحوّلهم قتلةً بقتل آخرين ليس لهم حساب معهم، حتّى ولو لم يكونوا أبرياء. لكن، عليهم أخذ القتل الذكي بالاعتبار، لمواجهة قاتلٍ أعمى رغم هذا الذكاء كلّه.
مع العلم أنّه مع تفخيخ الآلات المدنية لن تحتاج الدول التي تحارب عن بعد إلى "ريموت كونترول" مجازي قريباً، للتحكّم بجيوش تصنعها من طوائف مُتطرّفة أو من مرتزقة أو من فئة ساخطة تحارب بدلاً منها في بلاد أخرى، بل ستحارب حرفيّاً بأجهزة التحكّم عن بعد. والحقيقة التي لم تستوعبها الدّول الجنوبية هي أنّ الأمن لا يستتب بشراء الأسلحة، بل بالتقدّم الذي يبدأ من التعليم الجيّد الذي يخلق طاقاتٍ تصنع وتبني، وتحقّق الاكتفاء الذاتي. فكيف تحمي بلدك وأنت تراهن على إفشال التعليم لحماية الأنظمة؟
كثيرٌ من النّدم سينتاب السّلطويات التي انشغلت بشراء الأسلحة، بدل التسلّح بالعلم، فدولنا "الواسعة الحيلة" لم تكتفِ بالتأخّر في الصّناعة، بل تراخت في الزراعة، وجلّها يستورد كمّيات مهمّة من طعامها. لكن من يضمن ألّا يُستخدم الطّعام في الحروب القادمة؟