خيانة الضمير
لم يكن أحد من السوريين ينتظر أن يتحرّك المجتمع الدولي لإيجاد حلٍّ سياسيٍّ، ينهي الوضع الاستثنائي الذي يعيشونه منذ عشر سنوات، ومات لديهم كل أمل، أو تعويل على مبادرة وازنة تضع حدّا لتهجير الملايين، وتسمح لهم بالعودة إلى الحياة في بيوتهم، التي أجبرتهم حروب رئيس النظام بشار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين على تركها. ومنذ أن تراجع الرئيس الأميركي الأسبق، بارك أوباما، عن الخط الأحمر، بعد مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق، التي ارتكبها الأسد في أغسطس/ آب 2013، بات السوريون يدركون أن الطرف الدولي الوحيد القادر على تغيير المعادلة، وهو الولايات المتحدة، قد سحب نفسه من الملف السوري، وتركه لروسيا التي لا ترى حلا بلا إعادة تأهيل الأسد، ليحكُم من جديد. وعلى هذا الأساس، ركبّت "عملية أستانة" واللجنة الدستورية لإضاعة الوقت، وتمكين النظام من بسط سيطرته على مناطق حيوية خسرها قبل 2014، من ريف دمشق وحلب وحمص ودرعا وحماه وإدلب. وفي غضون ذلك، لم تظهر موسكو عجالة، بل استمرّت تعمل ببطء من أجل تمكين الأسد، بمشاركة ودعم من طهران. وبدأت في الفترة الأخيرة تحقق بعض التقدّم على المستويين العربي والدولي، رغم كل ما تعانيه من عقوبات وعزلة ومقاطعة دولية بسبب حربها على أوكرانيا. واللافت هنا أن الدول الغربية، التي كانت أمامها فرصة متاحة للضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سورية، لم تغتنمها للتأثير في الوضع السوري، بعد أن بدأ موقف روسيا بالضعف، بسبب خسائرها الكبيرة في أوكرانيا، واضطرارها لسحب أغلبية قواتها إلى هناك، ولم تبق في سورية سوى وحدات رمزية لحماية القواعد الروسية.
لا تريد واشنطن وحلفاؤها من الغربيين أن تُزعج بوتين في سورية، لأنها لم تعد معنيةً بالمسألة السورية نهائيا، منذ أن تنازلت عنها لروسيا ضمن صفقة الكيماوي، وكان يجب أن تحصل كارثة الزلزال في السادس من فبراير/ شباط الحالي، حتى تظهر المواقف الأميركية والغربية على حقيقتها، حيث إن رد فعل واشنطن لم يكن حتى في الحد الأدنى، ولم ترسل حتى فريق إنقاذ ومساعدات إغاثة إلى منطقة شمال غرب سورية، وقد كان في وسعها أن تقوم بذلك، فلديها كل الإمكانات من أجل التصرّف بسرعة، وحاولت بعد أسبوع أن ترمي المسؤولية على الأمم المتحدة، وكأنها لم تتجاوز المنظمة الدولية قبل ذلك، وتدوس قراراتها في العراق وفلسطين وليبيا وسورية. ومع أن مسؤولين أميركيين أبدوا خشيةً من أن تأخذ المساعدات صبغة سياسية، جمّدت واشنطن عقوبات "قانون قيصر" على نظام الأسد ثلاثة أشهر، وتركت منظمات الأمم المتحدة توجّه مساعداتها له.
كان قطاع واسع من السوريين يعتقد أن المسألة السورية لم تعد سياسية، وتحوّلت إلى قضية إنسانية. وعلى هذا الأساس، ستتحمّل المجموعة الدولية مسؤولية مساعدة المهجّرين حتى يحصل الحل السياسي. ولكن الزلزال برهن لهم أن المجتمع الدولي عاجزٌ عن تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الخاصة بالكوارث، وتركهم يواجهون أهوال الزلزال عدة أيام، ولم تُحرجه صور الضحايا وهم ينتظرون من يُخرجهم من تحت الأنقاض، ولا عشرات الآلاف من المشرّدين الذين باتوا بلا مأوى، ولا يشكّل الموقف الأميركي انسحابا من واجبٍ أخلاقي فقط، بل خيانة لكل ما هو إنساني، وإهانة للضحايا، ولن يلحق عار هذا التهاون بأميركا وحدها، وقادتها وسياسييها، بل بالقيم الإنسانية على مستوى الكون، وستكون له عواقب كبيرة ليس على مستوى سورية فقط، بل على كل الشعوب المنكوبة في العالم، والتي تعاني من سياسات الكيل بمكيالين والتمييز والاحتلال. ومن الآن، لن يبقى هناك أي اعتبار للتضامن الإنساني. وما ينتظر السوريين أكثر قسوةً مما مرّ عليهم.