سورية… الأمل بحدود
أحيت مشاهد التظاهرات المستمرّة في عدة مناطق سورية شعارات الثورة ضد نظام بشار الأسد، ومعها انتعشت الآمال مجدّداً بخروج حراك جديد يكون قادراً هذه المرّة على إحداث التغيير الذي كان مطلوباً منذ أكثر من 12 عاماً. لكن، رغم أهمية التظاهرات القائمة، من المبكّر جداً التعويل عليها، أو اعتبارها موجة جديدة من الثورة السورية.
معطيات كثيرة تنقص الحراك الحالي ليكون ذا جدوى فعلية. بدايةً، لا تزال الاحتجاجات محصورة في مناطق معينة، وتحديداً في الجنوب السوري في السويداء ودرعا. ومن المعلوم أن هذه المناطق لم تهدأ سابقاً، وكانت موجات الاحتجاجات فيها تعلو وتخفُت حسب التطورات. وبالتالي، ما يحدث حالياً ليس جديداً على هذه المناطق. الأهم في ما يحدث اليوم هناك استمرارية الاحتجاجات فترة أطول، وذلك بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها المواطنون السوريون عموماً، وتحوّلها من رفع الشعارات المطلبية المعيشية إلى الشعارات السياسية ومطلب إسقاط النظام.
لكن رغم الزخم المستمر في هذا الحراك، إلا أنه فشل في التمدّد إلى مناطق أخرى في سورية، وتحديداً في ريف دمشق وحمص وبعض مدن الساحل. وحتى ما شهدته حلب من إضراب وبعض الاحتجاجات يوم الجمعة الماضي، جاء تحت سقف العمل النقابي المضبوط من النظام. وبالتالي، لا يمكن اعتباره جزءاً من حراك الجنوب السوري.
أسباب كثيرة تقف خلف عدم خروج هذه المناطق، رغم أن المعاناة نفسها في كل المدن السورية، والتي بدأت تصل إلى حد الجوع الفعلي. لعل أول هذه الأسباب خلو كثير من مناطق ريف دمشق، على سبيل المثال، من السكّان بعدما هجّرهم النظام، كما أن بعض هذه المناطق دُمّر بالكامل، ولم يعد صالحاً للسكن. كذلك، فإن كثيرين من سكان هذه المناطق عانوا خلال أيام سنوات الثورة من إجرام النظام، ولا يزالون يذكرون البراميل المتساقطة على المنازل والأحياء السكنية، وهم يخشون تكرار هذه المشاهد، خصوصاً أنهم لا يروْن أي تغييراتٍ حقيقية تجعل نتاج حراكهم الجديد المفترض مختلفاً عن سابقه.
ولا يمكن قياس ردّة فعل النظام على ما يحدُث في الجنوب بما يمكن أن يفعله في مناطق أخرى، إذ إن لدرعا والسويداء وضعاً خاصاً لا تشاركه معهما أيٌّ من المناطق السورية الأخرى، فتركيبة السويداء الطائفية حمتها خلال الثورة من بطش النظام، ورغم الاعتقالات والاغتيالات التي نفّذها النظام هناك، إلا أنها لم تتعرّض للتدمير الممنهج الذي طاول سائر المناطق السورية التي ثارت عليه. أما وضع درعا فهو مرتبط بكونها حاضنةً أساسية للفيلق الخامس واللواء الثامن التابع له، وهو الفيلق الذي تم تشكيله برعايةٍ روسية، ويشكّل قوة روسيا الضاربة في الجنوب السوري، الأمر الذي يتعامل معه النظام بكثير من الحذر.
كثير من السوريين يعوّلون أيضا على تحرّك ما في الساحل السوري، بعد تزايد فيديوهات الناشطين في تلك المنطقة التي تنتقد الأسد ونظامه ودور زوجته أسماء في إدارة البلاد. لكن حراكاً كهذا، في حال حصوله وهو مستبعد، لن يخرج من العباءة الفئوية والطائفية، لأن مطالبه ستدور في هذا المجال، وبالتالي، لن يشكّل أي رافد حقيقي لأي حراك ثوري جديد ممكن أن تشهده البلاد.
لا شك في أن ما تعيشه سورية اليوم وتنقله شاشات التلفزة ومنصّات مواقع التواصل الاجتماعي مهم، ويبعث الكثير من الحنين إلى الأيام الأولى للثورة، لكن من المفيد عدم رفع سقف الآمال حالياً، والعمل، في المقابل، على إيجاد آلية لتصريف حالة الغضب، بانتظار ما ستشهده المرحلة المقبلة من تطوّرات، سواء ميدانياً بامتداد التظاهرات أو سياسياً باستغلال هذا الحراك لزيادة الضغط على النظام، خصوصاً مع فشل تطبيعه مع العالم العربي.