ضد العادات
لا أُبلي جيداً في الرّحلات الجوية الطويلة. أجد نفسي، المعتادة على ترك مسافاتٍ شاسعةٍ مع الناس، خارج السّيطرة. ليس لأنّ التحليق يخيفني، بل هو الجلوس في مكانٍ ضيّقٍ مدّة طويلة، مع عشرات أو مئات الأشخاص، وهو أمرٌ ضد العادة تماماً. أفتح الشاشة أمامي، أفرد الطاولة من أجل كأس شاي أو وجبة خفيفة، وأبحث عن هاتفي، وعن المعقّم... هكذا تزدحم الأشياء التي أحتاجها، بينما لا تكفي المساحة لشيءٍ واحدٍ منها. أرتبك بين ذلك، وأخفق في محاولة عدم إيقاع شيءٍ على الأرض. أحاول، بقليلٍ من التركيز، إكمال قراءة المجموعة القصصية الممتعة "حانة العادات"، للكاتب الفرنسي فرانز بارتِل، وجوهرها صراع الإنسان مع العادات.
يستولي جاري على المسند بيننا. يصطدم كوعي بذراعه التي تستلقي على المسند. عادة ما يحاول المهذّبون إيجاد تسوية سلمية على أرض المسند، إما بالتبادل عليها أو باقتسام السّبعة سنتيمترات بشكل تلقائيٍّ لا يحتاج كلمات، بل فقط أن يجد الكوعان مكاناً لنفسيهما، مع بضعة ملّمترات أمان. بينما الأنانيون لا يكترثون، ولا يمكن أن تدخل معهم في صراعٍ ودفعٍ بالأكواع، لأنّ الطريق طويلة، ولا تريد أن تعلق فيها إلى جانب شخصٍ تبغضه أشدّ البغض، فتستسلم حفاظاً على سلامتكَ، وأحيانا تُريح يدك هناك لبعض اللحظات، ثم تسحبها رغم أن تقييد جسدك ثماني ساعات، عذاب نفسي ناتج من تعنّت العادات.
في سعيي إلى إقناع نفسي بضرورة ترويضها. بدأت أخطّط لأن أنام وأنا جالسة أشاهد التلفزيون، لأعوّد رأسي على نوم الطائرات. وأن أبحث عن أكثر المقاهي ازدحاما، لأقرأ كتاباً، أو أعمل أو أفكّر، حتى أتعوّد الازدحام. لا أظنّ أنني قد أفعل أي شيء منها، فما السبيل إلى الخروج من سجن العادات؟
في الحانة، حانة العادات، تخرج الشخصيات تباعاً عن عاداتها، وتموت شخصيات أخرى من دون أن تتزحزح عنها، بل قد تموت من أجلها. لعل أسلم ما يفعله إنسانٌ ألا تكون له عادات، فيفيق بشكل عشوائي، ويأكل كذلك ويسافر ويعمل كيفما اتفق، يتقبّل كل وضع جديد أو قديم، ويكون سلسا سهل المعشر، لا طعام مفضّلا عنده ولا شراب، لا فرق لديه بين الضجيج والهدوء أو الليل والنهار أو الصيف والشتاء، كل شيءٍ جيد. لكن ماذا عن عادات الروح والعقل؟ حياة شخص بلا مبادئ أسهل، فلا فرق عنده بين الكذب والصدق، الوفاء أو الغدر أو الكرامة أو المذلّة... لكن هل هذه حياة؟
تُشعرنا العادات بالألفة داخل حياتنا الخاصة، وبالسيطرة ووهم الاختلاف. فما من حديثٍ أكثر فخرا من سيرة العادات: أنا أفضل، أنا أحبّ، أنا أرغب... يشعرنا ذلك بالأهمية والاستقلالية في اتخاذ اختياراتنا التي تصبح مهمّة مع الزمن، وجزءا مما نعتقده نحن، فلسنا من الرعاع الذين يأكلون أي شيء، بل أشخاص لهم تفضيلاتٌ وعادات. من يحبّ قهوة صباحية بلا سكر، وآخر يفضّلها مسائية مع الكريمة، وآخر يحبّ النساء نحيفات حتى تبرُز عظامهن، أو ممتلئات بارزات التكوين، حتى يعي فانتازيا طفولية لأول امرأةٍ تلفت نظره كذكر، ويواصل حياته باحثا عن الأنوثة في صفاتٍ جسدية، وأخرى تقول إنها تحب الرجل الذي يضحكها بينما تقصد الذي يضحكها جيبُه، أو الرجل قوي العضلات ليحميها من هواجسها، قبل أن يصبح كابوس يقظتها.
تخرج قصص "حانة العادات" من المعتاد، وتنتهي بشكلٍ آخر بعادات جديدة. مثلاً، هناك رجل حلم طوال حياته أن يصبح قاتلاً متسلسلاً. ولأنه أراد أن يخرج عن العادة، قرّر أن يبدع خارج لائحة فئات النساء التي تخصّص فيهن القتلة قبله، فاختار زوجات "مسجلي العقود". في قصة أخرى، رجل وسيم جداً يُدير رؤوس النساء داخل البلاد وخارجها، لكنه اختار تركيز نظره على البسيطات من متوسّطات العمر والجمال والمال. فمن لهن؟ على عكس الثريات اللواتي لا يصعُب عليهن، في نظره، استقطاب شبابٍ وسيمين بفضل أموالهن، إذا لم يكن بفضل أمور أخرى. وتنتهي قصة كازانوفا العدالة الاجتماعية، على غير المعتاد كما هو متوقّع.
هي تناقضاتنا في علاقة شدّ وربطٍ وهزّ مع العادات، لنعيش اليوم بيومه، معتقدين أن عاداتنا هي نحن، وبدونها نحن لا أحد.