طلال سلمان ومؤسّسة السفير
لقي رحيل مؤسّس صحيفة السفير ورئيس تحريرها طلال سلمان في الأوساط اللبنانية والفلسطينية السورية عدم اهتمام ملحوظ، مردّه إلى سببين. الأول، حالة من التمحور حول الذات، تقيس حسنات الآخرين وسيئاتهم بميزان، كل من ليس على مواقفنا مائة بالمائة لا يستحقّ منا سوى إدارة الظهر. وهذا نتاج تربية ذات جذور مديدة في الثقافة السياسية العربية التي لم تتعلم قيمة الاختلاف، ولا تتحلّى بفضيلة الاعتراف بجهد الآخرين، حتى لو كانوا خصوما. السبب الثاني الإحباط العام، على اختلاف المواقع السياسية والثقافية، وهذا حالٌ قاد إلى عزوفٍ عن التفاعل مع التطورات خارج دائرة المحيط المباشر. ولم تعد الأغلبية تملك ترف التعاطي مع أي حدث، بسبب الكوارث التي حلّت بالمنطقة. وقد يجد المرء مبرّرا لفئاتٍ كثيرة، لكن المُصاب الكبير يجب ألا يمنع الهيئات والمؤسّسات والنخب السياسية والثقافية من رد الفعل تجاه ما يحصل من أحداث وتطوّرات.
لا يقف الحديث عن طلال سلمان عند سيرة الصحافي فقط، بل هو مناسبةٌ لقول كلمة حقّ عن مؤسّسة إعلامية كبيرة، نجحت بكل المعايير في مواكبة مرحلةٍ مهمةٍ من عمر لبنان وفلسطين وسورية، بدأت في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتتواصل، ولم تكن خاتمتها مع إقفال السفير عام 2016، بل واحدة من نتائجها الكارثية. وبالتالي، نحن إزاء 40 عاما من الحروب الكبيرة، والأحداث المهمة التي غيّرت وجه الشرق الأوسط، وكانت "السفير" في قلبها، تشهد وتسجل وتتفاعل عن كثب. في أتون الحرب الأهلية اللبنانية، وتدخل النظام السوري في لبنان ضد المقاومة الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية، وسقوط مخيم تل الزعتر، ومن ثم اغتيال الزعيم كمال جنبلاط، وبعد ذلك الاجتياح الإسرائيلي لبنان، ودخول بيروت عام 1982، وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وبعد ذلك انتخاب بشير الجميّل واغتياله، واتفاق 17 أيار ومعركة إسقاطه، وصولا إلى الحرب العراقية الإيرانية، واجتياح الكويت، وحرب الخليج الأولى، والاحتلال الأميركي للعراق، ومن ثم الربيع العربي الذي تفاعلت معه الصحيفة بإيجابية، حتى وصلت رياحه إلى سورية، وحينها حاول سلمان أن يوازن موقفه بين النظام والثورة، ولكنه فشل، وربما كان هذا أحد الأسباب التي دفعته إلى قرار إقفال الصحيفة.
في كل مسيرة "السفير"، كان سلمان مهموما بأمرين معا، صناعة صحيفة مهنيّة قادرة على المنافسة في لبنان، وذات حضور في العالم العربي. ومواكبة الأحداث، من موقع التفاعل وتسجيل موقف سياسي، يحافظ على الثوابت التي تشكل قواسم عربية مشتركة من فلسطين، ومقاومة الاحتلال، إلى الديمقراطية والإصلاح، ولم يكن وحدَه في خوض هذه التجربة، التي قامت على خبرات صحافية متنوّعة، من لبنان، فلسطين، سورية، مصر، الأردن، تونس، العراق، والمغرب ... إلخ. وما يميز هذا الصحافي أنه ظل محافظا على استمرار صدور الصحيفة أكثر من أربعة عقود، في مستوىً لائق، واستطاع إدارة التنوّع والاختلاف من أجل توفير منبر عربي، سياسي وثقافي، وحافظ على مهنيةٍ عالية، شكّلت مدرسة جديدة في الصحافة العربية، ألقت بتأثيرها على جيلٍ كامل من الإعلاميين ووسائل الإعلام العربية. ولم يكن هذا أمرا هيّنا، في ظل سطوة مدارس مهنية ذات توجّه محلي قوي.
عاش سلمان وسط أربعة عقودٍ من الأحداث، وواجه مصاعب كبيرة، وتعرّض إلى أكثر من محاولة اغتيال. قد يكون هادن، وأجرى مساومة في مكان، لكنه، في نهاية المطاف، صحافي، تحتمل مهنته الصواب والخطأ والاختلاف. ومن المنطقي أن تكون وفاته مناسبة لتسجيل ما له وما عليه، من خلال تشخيص موضوعي، يعتمد معايير مهنيّة وقيمية تترفّع عن الحسابات الصغيرة والرؤى القصيرة النظر. ولكن من المؤسف أن حال التردّي العام الذي تعيشه المنطقة لا يترك مجالا سوى للنسيان.