عام الكورونا الأميركي
مثلما كان الحال في التقويمات الشعبية القديمة هناك أعوام تحمل أسماء غريبة كعام الجراد أو النمل الأبيض، فإن الاسم الذي يليق بـ 2020 هو عام الكورونا. هذا الوباء الذي دهم البشرية فجأة، ليضرب كل الأجندات بلا استثناء، وعلى مستوى العالم ككل، من الدول الصغيرة والفقيرة حتى الإمبراطوريات العظمى صاحبة الجيوش والاقتصادات الترليونية. الجميع سواسية في حالة عجز أمام هذا الفيروس الذي لا تزال البشرية غير قادرة على تحديد منشئه العضوي، ولا الوسائل الناجعة للخلاص منه. وإلى حين ظهور أولى اللقاحات، بدت الأضرار اللاحقة بأهم قوة كونية، أي الولايات المتحدة، أعظم منها في حال أي بلد آخر. وعلى الرغم من التقدّم العلمي الهائل، فإن أميركا لم تكن سباقة إلى اكتشاف اللقاحات المضادّة للفيروس، وسبقتها إلى ذلك ألمانيا التي أنتجت لقاح فايزر - بيوتنيك الذي يتصدّر اللقاحات العالمية، بينما لا يزال لقاح موديرنا الأميركي لم يعرف طريقه إلى التسويق الواسع على مستوى الولايات المتحدة والعالم.
ومن المفارقات هنا أن هذا الفيروس تدخل في صميم الحياة الأميركية، كما لم يحدث في أي بلد آخر، ووصل إلى لعب الدور الرئيسي في خسارة الرئيس دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية. وبعد أن كان ترامب يعوّل على أدائه الاقتصادي المتميز، جاء فشله في إدارة أزمة الفيروس منذ لحظة ظهوره، ليضيع عليه فرصة الفوز بولاية ثانية. والمشكلة لا تقف عند أداء ترامب في مواجهة الجائحة فحسب، بل تتعدّاها إلى نظرة الرئيس الأميركي إلى قضية الصحة، بوصفها مسألة أساسية من الأساسيات التي يتوقف تقدّمها على نهوض الدولة بها، مثل شؤون الدفاع التي لا يمكن خصخصتها وتلزيمها إلى شركات من القطاع الخاص. ويجدر التوقف هنا عند موقف ترامب من نظام الرعاية الصحية الذي أنشأه الرئيس الأسبق، باراك أوباما، عام 2010، وكان الهدف منه تأمين ضمان صحي لكل أميركي بتكاليف قليلة، كما في فرنسا. وأول ما قام به الرئيس الأميركي الحالي أنه قاد معركة في الكونغرس، من أجل إلغاء هذا النظام المعروف باسم "أوباما كير"، وحين فشل في ذلك لجأ إلى قانون معدل، يشكل خطوة هامة لإلغاء قانون أوباما.
يضاف إلى ذلك عدم جدّية ترامب في مواجهة وباء كورونا. منذ البداية، اتسمت مواقفه وردود أفعاله بلا مبالاة، وأعطى مثالا سيئا في ما يتعلق بالإجراءات الاحترازية، مثل عدم ارتداء الكمامة. وعمم هذا الموقف المستهتر على فريق من مساعديه ومستشاريه، وأدّت النظرة التبسيطية إلى إشاعة سلوك في بعض الأوسط ساهم في تفشّي الوباء على نطاق واسع. ومن هنا، ليست الأرقام العالية في الإصابات والوفيات في الولايات المتحدة مصادفة أو سوء تخطيط، بل هي أمر يتعلق، بالدرجة الأولى، بالنظام الصحي، وعلاقة الدولة بهذا النظام الذي تبين أنه يعاني من مشكلات بنيوية كبيرة، وهذا ليس سرا، بل يكاد يكون من القضايا الأساسية التي تدور من حولها الحملات الانتخابية. ومعلومٌ أن النسبة العالية من الوفيات في أميركا كانت في أوساط الفقراء الذين لم يتمتعوا بنظام صحي عادل، وبالتالي تعايشوا مع أمراض مزمنة، وذات كلفة علاج عالية، وهذه الشريحة هي الأكثر تضررا من الفيروس.
هزيمة ترامب ليست النتيجة الوحيدة لأزمة كورونا، بل إن الفيروس يطرح على أميركا تحدّيات كبيرة، تتعلق بإعادة بناء النظام الصحي الأميركي الذي تعرّض لاختراق كبير من كورونا. وواضحٌ أن الإدارة القادمة التقطت الرسالة، ويتوقف أحد أهم أسباب نجاحها على العمل بها بسرعة، من أجل هزيمة الوباء، واستعادة ما تبدّد من هيبة أميركا.