عسكر السودان .. الحكم مقابل التطبيع
اختار عسكر السودان الطريق السهل للبقاء في الحكم، من خلال عقد صفقة مع الولايات المتحدة، قدّموا بموجبها الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها، وتم إخراج القضية وفق مقايضة الاعتراف بإسرائيل، مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول راعية الإرهاب، وبذلك يجري إسقاط الجرائم التي ارتكبها النظام بحق الشعب السوداني عبر تاريخه المديد منذ حكم عمر البشير في عام 1989. ويبدو أن عسكر السودان لم يجدوا أمامهم سوى هذا الخيار لتنظيف سجلهم الأسود، فهم وإن لم يرحلوا مع البشير فهم شركاء في كل جرائم العهد السابق، ولا سيما نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الجنجويد، الذي تحدثت منظمات دولية عن ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، والذي قدّم مسألة التطبيع على نحو بهلواني يثير السخرية، حين برّر الأمر بأن بلاده "ترغب في إقامة علاقات مع إسرائيل، وليس تطبيعا، للاستفادة من إمكاناتها المتطورة".
اقدم العسكر على هذا العمل المشين في وقت لم يفوضهم أحد من السودانيين بذلك، ورغم أنهم يمثلون سلطة انتقاليه غير منتخبة لا يحق لها اتخاذ قرارات على هذا القدر من الخطورة، تتعلق بمستقبل السودان وتمس سيادته وكرامته. وكان واضحا من ردود فعل القوى السودانية المعارضة للصفقة أنها اعتبرتها "تناقض المصلحة الوطنية العليا، والموقف الشعبي"، على حد تعبير الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة. وهناك إجماع بين المعارضة على أن الصفقة تجاوز على مشاعر أهل السودان الذين أوصلوا الحكم الحالي إلى قيادة البلاد بعد إسقاط الرئيس عمر البشير من خلال ثورة شعبية.
أمر جيد أن تتحرّك قوى مدنية سودانية لرفض هذه الصفقة والعمل على إسقاطها، ويظل صاحب الحق في محاسبة العسكر على جرائمهم هو الشعب السوداني الذي تضرّر، ودفع ثمنا غاليا من النهج الديكتاتوري للعسكر. وأقل ما يمكن قوله إن هذه الخطوة تشكل خيانةً صريحةً لتاريخ الشعب السوداني وثورته التي قامت ضد البشير، وما يمثله من إرثٍ ديكتاتوري، وعمليات رهن للسودان، ومن ذلك إرسال قوات سودانية للمشاركة في الحرب ضد اليمن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الجريمة يتشارك فيها المسؤولية المجلس العسكري السوداني، وهي لم تكن من فعل الرئيس السابق وحده، وإلا كان قد سحب هذه القوات بعد إطاحة البشير.
تبرير التطبيع بأنه طوق نجاة للسودان من الأوضاع الاقتصادية المزرية، اعترافٌ بفشل العسكر الذين حكموا هذا البلد منذ انقلاب عام 1989 على الحكومة المدنية المنتخبة. وفوق ذلك لا يمكن أن ينطلي على أحد تبرير حميدتي، والطابور الذي يلتف حوله من المتسلقين، عن قضية الخبرات الإسرائيلية في الزراعة التي ستنقذ السودان، وكأن السودان صحراء لم تعرف الزراعة في تاريخها، ولا يعبره النيل الذي يروي مساحاتٍ شاسعة من أراضيه كافية لإطعام القارة الأفريقية بأكملها، ويتحمّل عسكر السودان مسؤولية تدهور الاقتصاد، بسبب زجّ البلد في حروبٍ داخلية وخارجية، كانت نتائجها كارثية اقتصاديا وسياسيا، وبدلا من أن يتحمّلوا المسؤولية في معالجة الملفات الاقتصادية، فإنهم يرتمون في حضن إسرائيل التي يُسقطون كل عجزهم على كرمها الكاذب، والذي يصوّرونه بأنه سيخلصهم من المحاسبة على الجرائم، ومن مسؤولية وضع خطة إنقاذ للبلد، بالاعتماد على القوى الذاتية، كما فعلت بلدان كثيرة ذلك، لم ترهن كرامتها لدولة احتلال عنصرية ونظام استيطان وأبارتهايد ضد الشعب الفلسطيني.
صفقة التطبيع بين السودان وإسرائيل مهزلة تاريخية، رعتها الولايات المتحدة، ولعبت دور الضامن الفعلي لها، من خلال تجيير قضية الديمقراطية السودانية لصالح إسرائيل، وهذا احتيال مكشوف على السودان والعرب، بوصف الديمقراطية قضية أساسية مرتبطة حكما بالنضال من أجل تحرير فلسطين.