عمّان … زيارة أولى
لم يكن الأردن يوماً ضمن قائمة الوجهات التي أودّ زيارتها، ربما لانطباع عام حصلت عليه من أصدقاء أردنيين كثيرين زاملتهم ورافقتهم في مراحل متعدّدة من العمل الصحافي. انطباع يحمل الكثير من الأفكار المسبقة عن البلد وعاصمته أو عن الشعب الأردني الذي وصفه الكاتب الأردني الراحل محمد طمليه في أحد مقالاته الساخرة بأنه "يرسم تكشيرتَه كل صباح قبل الخروج من المنزل".
حملتُ هذه الأفكار المسبقة معي في زيارتي الأولى إلى عمّان قبل أقل من أسبوع. أفكار سقطت واحدة تلو الأخرى منذ لحظة الخروج من مطار الملكة علياء الدولي وصولاً إلى وسط مدينة عمان، والتي لم تكن تشبه أياً من الصور التي كنت قد رسمتُها في خيالي. فالمدينة تحمل الكثير من الحداثة والعراقة، على الأقل في ما يتعلق بالمناطق التي زرتها، وأعترف أن جولتي في هذه الزيارة اقتصرت على وسط عمّان وغربها، وهي مناطق، كما قال أصدقاء لي، تضم الطبقتين، الوسطى والعليا، أما شرق عمّان، والذي لم أزره، فهو موضوع آخر. ولكن بغض النظر عن وضع المناطق العشوائية في عمّان، وهي من المؤكد تماثل ما في عواصم ومدن عربية كبيرة، فإن الانطباع الجديد الذي حملته من المدينة والبلد جعل منها واحدةً من وجهات الزيارة الدائمة.
فوجئ زملاء التقيتهم في عمّان بأن هذه هي زيارتي الأولى الأردن، وبأني لم أفكّر مسبقاً بخوض التجربة الأردنية. وكان جوابي إن أردنيين كثيرين عرفتهم في الخارج لم يُحسنوا ترويج بلدهم وعاصمته، على عكس أبناء الجنسيات الأخرى، اللبنانية والمصرية على سبيل المثال، والذين يأخذون على عاتقهم دوماً رسم صورةٍ مبهرةٍ لبلادهم ومدنها، رغم أنها قد تكون مخالفة كلياً على أرض الواقع. ينطبق الأمر أيضاً على الأردنيين داخل البلاد، على المستويين الرسمي والأهلي، والذين لم يبذلوا الكثير من الجهد لتسويق عمّان واحدةً من الحواضر العربية الأساسية في المشرق العربي، إلى جانب دمشق وبغداد وبيروت.
الجولة في عمّان القديمة أساسية لترسيخ هذه الفكرة. جولة هي من لوازم زيارة العاصمة الأردنية، تبدأ دائماً من أحد المطاعم الشهيرة في وسط البلد، سواء لتناول المنسف أو الفول والفلافل، لتمرّ بكنافة حبيبة وقبله كشك أبو علي للكتب، لتنتهي عند المدرّج الروماني. وفي الطريق إلى هذه الأماكن، تستوقفك محلات شعبية كثيرة، وسط ازدحام المشاة الذين يرون في هذا المكان متنفسّاً لهم. وعلى عكس الصورة الشائعة، لم تكن "التكشيرة" سمة غالبيّة أهل المدينة، رغم الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الأردن، مثل سائر الدول العربية، بل على العكس كانت الطرافة حاضرة في الأحاديث مع كل من التقيتهم من الأردنيين.
بعد وسط المدينة، هناك الجولة في أحياء اللويبدة والشميساني وجبل عمّان، وجلسات طويلة في المقاهي الكثيرة هناك، والتي تحتضن جواً ثقافياً هو ابن المدينة ويحمل روحها، فهناك أماكن باتت معروفة لتجمّعات الكتاب والإعلاميين والفنانين تعجّ بالنقاشات الأدبية والسياسية. والمفارقة أن عمّان لا تزال محافظة على تقاليد المقاهي الثقافية، والتي اندثرت، أو على وشك، في دمشق وبيروت، وحتى القاهرة.
ولا يمكن أن تفوت الإشارة إلى صيف عمّان البارد نسبياً، وهو ما تتميّز فيه المدينة عن غيرها من العواصم العربية، فحرارة شمس النهار تطردها النسمات الباردة ليلاً، والتي تدفعك، في أحيانٍ كثيرة، إلى التدثر بسترة، وهو أمر غير معتاد إلا في مناطق الاصطياف المرتفعة في لبنان أو سورية.
في نهاية الزيارة، غادرتُ عمّان بانطباعات جديدة مختلفة كلياً، وبقناعة أكيدة أن هذه الرحلة لن تكون الأخيرة، وأنه ستتبعها رحلاتٌ كثيرة أخرى لن تقتصر على العاصمة، بل ستشمل كثيرا غيرها من المدن والنواحي الأردنية التي تستحقّ الزيارة.