عودة إلى موضوع مغرب/ مشرق
تلقّيت دعوة للمشاركة في ندوة في معرض الرباط الدولي للكتاب يوم 11 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، في موضوع المغرب الكبير بين تطلعات التحديث وإشكالات المشرق. وعندما تأملت الصيغة التي رُكِّب بها عنوان الندوة، انتابني شعورٌ خاص بغموضه، فواجهتُ الانطباع الحاصل في ذهني قائلاً: رُبَّ عنوان غامض أفضل من عنوان مباشر وواضح. ثم تساءلتُ: لماذا تُطرح مثل هذه القضايا في زمن يواجه فيه العرب مشرقاً ومغرباً إشكالات سياسية وتاريخية متشابهة، وهي أكثر تعقيداً من الحساسيات المرتبطة بفضاءاتهم الجغرافية وهوياتهم الفرعية؟ ثم انتبهت وأنا أقرأ رسالة الدعوة أنّ أسطر ديباجتها استوعبت خمسة أسئلة، زادت الموضوع غموضا، إذ لم يتمكّن محرّروها من وضع اليد على القضايا المرتبطة بجمود آليات عمل مؤسّسات المغرب الكبير، ولا توضيح ما أطلقوا عليه إشكالات المشرق ولا ضبطها!
تحضر في أسئلة الديباجة قضايا تتعلق بأفريقيا وبالغرب الأوروبي، وأخرى تشير إلى المشرق العربي، من دون ذكر كلمة عربي، وثالثة تستحضر دساتير بلدان المغرب وأسئلة التحديث والديمقراطية. ونتصوَّر أنّ هذه القضايا مجتمعة تهم طرفي الموضوع من دون فروق بين أحوال المغارب وأحوال المشارق. وقد انتبهتُ، أيضاً، إلى إقحام ثنائية العقل والنقل في ديباجة الموضوع، وهي ثنائيةٌ متصلةٌ بِسِجِلٍّ فكري تاريخي مرتبط بعصورنا الوسطى، ولا علاقة له بموضوع الندوة، حيث يشير واضعو الديباجة إلى أنّ "أهل المغرب أقدر من غيرهم على التوفيق الخلاق بين الاثنين"! أما السؤال الأخير في الديباجة، فيتّجه إلى الإقرار بأنّ سِجَالات الثقافة المغاربية ما زالت محكومة بإشكالات المشرق، في وقتٍ تتخذ حياتهم اليوم أفقاً آخر. وأتصوَّر أنّ هذا الحكم يكشف الروح العامة للندوة، كما يكشف كلّ ما عملت أسئلة الديباجة على إخفائه.
وإذا كنا نفترض أن مشروع الحوار النقدي الذي أطلقته مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر بباريس في ثمانينيات القرن الماضي، في موضوع مشرق/ مغرب، أثمر مصنّفاً هاماً في باب التعرف على مشروعي محمد عابد الجابري وحسن حنفي في الموقف من التراث والحداثة والعلمانية والتقدّم، إلّا أنّ محتواه كما جُمِعَ في المصنّف الصادر بعد ذلك بالعنوان نفسه، لم يحسم في مسألة إقامة التمييز والتمايز بين مشارق الوطن العربي ومغاربه، فقد تحكّمت في إنتاجه قبليات النص المُؤسِّس، ونقصد بذلك المفاضلة التي منح الجابري بواسطتها للفكر الفلسفي المغربي، وهو ينتقد العقل العربي، امتياز تَمَلُّك العقلانية والتاريخ والاجتهاد (ابن رشد وابن خلدون والشاطبي)، الأمر الذي ترتّب عنه مَنْح الفكر المغربي في مشروعه النهضوي، امتياز توليد النظر القادر على تجاوز الموروث اللاعقلاني المهيمن على ثقافتنا المعاصرة.
مشروع النهوض العربي الذي يُوضع كأفقٍ لوجهةِ الفكر في مختلف أنحاء الوطن العربي يقتضي مزيداً من التنوير العقلاني، كما يتطلب مزيداً من التمرّس بآليات الفكر التاريخي النقدي
نتّجه، ونحن نفكّر في موضوع الندوة، إلى محاصرة ثنائية مشرق/ مغرب في الفكر العربي المعاصر ونقدها، يدفعنا إلى هذا معاينتنا المتواصلة منتوج الفكر العربي في مختلف الأقطار العربية. ونتوخّى من ذلك البحث في كيفيات تكسير (واختراق) منظومات الفكر التقليدي، المهيمنة على آليات إنتاج الفكر في ثقافتنا ومجتمعنا مشرقاً ومغرباً. وإذا كنا نقبل مختلف مظاهر التنوع والاختلاف في منتوجنا الفكري، بل في مؤسّسات إنتاج الفكر القائمة في بلداننا، فإنّنا لا نقبل أن يتحوّل التنوع الذي نعدّه مصدر غني إلى عنصر امتياز لا تاريخي. ومقابل ذلك، نفترض أن مشروع النهوض العربي الذي يُوضع كأفقٍ لوجهةِ الفكر في مختلف أنحاء الوطن العربي يقتضي مزيداً من التنوير العقلاني، كما يتطلب مزيداً من التمرّس بآليات الفكر التاريخي النقدي، ليتمكّن العرب مشرقاً ومغرباً من تركيب المرجعية التاريخية والفكرية، القادرة على اختراق حُجُبِ أنظمة الفكر التقليدي السائدة في مجتمعاتهم، فلا علاقة لما حصل في تاريخنا المعاصر بالتوصيفات الجغرافية مشرق/ مغرب، أو التقسيمات المعيارية، من قبيل مركز هامش، قاعدة وأطراف.
لم أقتنع في أي يوم بمبدأ المفاضلة بين منتوج الثقافة داخل الفضاءات الفكرية، ذات المرجعية النظرية المتشابهة والإطار التاريخي الجامع، مثلما هو عليه الحال في العالم العربي. وذلك رغم علامات التميز والتمايز العارضة في التاريخ هنا وهناك، في المشرق وفي المغرب، وفي ما بينهما. مثلما أنّني لا أقبل الحديث الإيجابي في المجال السياسي باستعمال المفردات الدارجة في بعض الخطابات القومية، من قبيل "الإقليم القاعدة" أو "الإقليم المركز"، مقابل "الأطراف" و"الهوامش" و"البواقي"، فهذه المفاهيم تتخلّى عن آليات التفكير بالتوافقات التاريخية، والمواثيق العقلانية. ولهذا السبب، اتجهت، في الندوة التي ذكرت، إلى التفكير في تقديم ورقة تُعنَى بأسئلة الفكر العربي اليوم، بدل الانخراط في تكريس المفاضلات المُغفلة للشروط المؤسِّسة للثقافة، والشروط اللاَّحمة لسقف النظر هنا وهناك، متجنّبا استدعاء مفاهيم الجغرافية المُركَّبة بحسابات سياسية وسيكولوجية وهوياتية ظرفية وعارضة.
سِجَالات الثقافة المغاربية ما زالت محكومة بإشكالات المشرق، في وقتٍ تتخذ حياتهم اليوم أفقاً آخر
وعندما نسلم جدلاً بوجود حساسياتٍ في الثقافة المغربية، تميّزها داخل فضاء المشهد العام للفكر العربي، ونسلّم تاريخياً بوجود أسبقية في مجال تاريخ الأفكار في أقطار المشرق العربي، لن نستطيع إقناع أحد بأن الحساسيات المذكورة، والأسبقيات المؤكّدة، تمنح امتيازاً ما لروح الفكر العربي وتمظهراته المختلفة. وقد ساهمت الردود على مشروع التميز الذي منحه الجابري للعقل في المغرب والأندلس ردود علي أومليل ومحمد أركون وفهمي جدعان، على سبيل المثال، في إبراز مستويات التداخل والترابط، ومحدودية التمايز بين المشرق والمغرب في مجال تاريخ الأفكار، بحكم هيمنة نظام مرجعي فكري واحد، في الأداء الفكري العربي.. أما التنويعات التي حصلت هنا وهناك، فلم تقلب نظام النظر، بحكم أن شروط القلب لم تتوفر بعد.
وكان بإمكان واضعي برنامج الندوة الاكتفاء بتشريح إشكالات المغرب الكبير، والتفكير في عَطالة مؤسسات اتّحاده المُجَمَّد، التفكير في كيفيات وقف نزيف المجتمع الليبي، وقد تكالبت على أرضه وسمائه جحافل القِوَى الدولية والإقليمية بحساباتٍ سياسيةٍ واستراتيجية ، بدل الخوض في تركيب أسئلة وقضايا لا علاقة لها بالتحدّيات الكبرى التي تواجه بلدان المغارب، إشكالات ما بعد الثورة في تونس، إشكال الانتقال الديمقراطي في المغرب بعد مرور عقدين على تجربة التناوب، وعقد على الدستور الجديد، والإشكالات السياسية والثقافية في علاقتها بالتحولات الجارية في كلّ من الجزائر وموريتانيا ..