غزة… اليوم الثالث
تركّز الولايات المتحدة ومبعوثوها إلى المنطقة في الحديث عن "سيناريو اليوم التالي" بعد الحرب على غزّة. ويؤشّر هذا التركيز إلى أن طريق العدوان لا تزال طويلة حتى تحقيق أحد الأهداف التي وضعتها إسرائيل وأميركا لهذا العدوان، والمتمثل في إنهاء حكم حركة حماس في قطاع غزّة. وبغض النظر عن مدى واقعية تحقيق هذه الأهداف، والمدّة التي سيستغرقها تنفيذ هذه المهمة، لكن لنفترض أنه تم للولايات المتحدة وإسرائيل ما تريدان، وماذا بعد؟
بداية، من الواضح أن لا خطّة واضحة للولايات المتحدة وإسرائيل لمرحلة ما بعد حكم "حماس" في قطاع غزّة، ولهذا يجوب وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بين العواصم العربية لاستمزاج الآراء حول الخطّة الناجعة التي قد تسمح لواشنطن بتحقيق الهدف وفق المعايير التي وضعتها، وهي عدم احتلال قطاع غزة وعدم تهجير سكّانه. الفكرة الأميركية الحالية قائمة على إعادة السلطة الفلسطينية أو من يمثلها أو من هو قريب منها إلى القطاع ليحكمه وفق إطار سلطةٍ مدنية، وفي ظل وجود عربي ودولي في القطاع، إلا أن الفكرة الأميركية غير منسجمة مع ما تفكّر فيه الحكومة الإسرائيلية. فرغم أن إسرائيل غير جازمة في مخطط اليوم التالي في القطاع، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، شدّد على ضرورة وجود سيطرة أمنية إسرائيلية في غزّة فترة طويلة، وهو ما يتضارب مع فكرة عدم احتلال القطاع مجدّداً.
من الواضح أن إسرائيل بالدرجة الأولى، ومن ورائها الولايات المتحدة، تفكّر في سيناريو مناطق "ب" في الضفة الغربية بأن يكون هو الأنموذج لتطبيقه في قطاع غزّة، بمعنى أن تكون السيطرة المدنية للسلطة أو أي طرفٍ ستضعه إسرائيل والولايات المتحدة لحكم القطاع. وهو ما يسمح للقوات الإسرائيلية بالتوغّل وتنفيذ عمليات أمنية، كما تفعل حالياً في الضفة الغربية وتحت أنظار السلطة الفلسطينية.
سيناريو اليوم التالي هذا هو الأرجح في حال نجح العدوان الإسرائيلي الأميركي على قطاع غزّة. ولكن ماذا عن اليوم الثالث. هذا السيناريو، ورغم تطبيقه في الضفة الغربية، لم يمنع العمليات الفدائية في كثير من مدن الضفة ومخيماتها، وهو ما تعانيه إسرائيل حالياً، وهو ما سيحصل فعلياً في قطاع غزّة الذي لن يقبل أبناؤه، سواء كانوا من "حماس" أو غيرها من الفصائل الفلسطينية أو حتى من المدنيين، أن تُستَباح ممتلكاتهم وأراضيهم كما يحصل اليوم في الضفة، ومن ثَم فإن ما أسّس لظهور حركة حماس في عام 1987، سيؤسّس لظهور غيرها وربما أقوى منها مع الوقت.
لا تفكر إسرائيل بسيناريو اليوم الثالث هذا، على عكس الولايات المتحدة التي بدأت تؤشّر إليه في أكثر من مناسبة، من دون أن يعني ذلك أنه سيكون ممكن التطبيق. تدرك واشنطن أن بغض النظر عن فكرة اليوم التالي أمنياً وسياسياً في القطاع، لن يكون كافياً لـ"حماية إسرائيل"، في حال لم يكن هناك أفق حقيقي للشعب الفلسطيني في بناء دولته. وعلى هذا الأساس، أشار أكثر من مسؤول أميركي، وفي مقدّمتهم الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته، إلى النية للعودة إلى العملية السلمية وفكرة حلّ الدولتين. كلام كهذا من الجانب الأميركي مثير للسخرية في ظل الإدراك الأميركي أنه لم يعد هناك مجال لهذا الحلّ في ظل تصاعد حكم اليمين الإسرائيلي، والذي سيزيد بعد الحرب، إضافة إلى تدمير الحكومات المتتالية أي فرصة لإقامة الدولة الفلسطينية وفق الشرعية الدولية، ورفضها منح الفلسطينيين حقّ السيادة في الضفة الغربية، فضلاً عن القدس المحتلة.
يبدو أن الأميركيين والغربيين يحضّرون لليوم الثالث بطريقة أخرى أيضاً، فرغم الإعلان العلني عن رفض التهجير، يبدو أن تهجيراً آخر يحضّر له لأهالي قطاع غزّة تحت عنوان "إقامات العمل" في عدة دول غربية وعربية. فإفراغ القطاع من سكانه أو تخفيف كثافته السكانية هو أحد الأهداف أيضاً.
في كل الأحوال، هذه الأفكار سابقة جداً لأوانها، وربما قد لا تكون ضرورية، خصوصاً أن اليوم الأول لم ينته بعد، وأي من الأهداف التي وضعتها إسرائيل لم، ولن يتحقّق.