في تعقيدات الحرب الإثيوبية
تُجمع التحليلات المختلفة للحرب الأهلية الدائرة في إثيوبيا على تعقّدها وافتقارها لحلّ سريع لعدة أسباب.
أولاً: يفتقر المشهد لأيّ معلومات دقيقة عن مواقع المعارك بين قوات الحكومة المركزية والمتمرّدين، ومدى اقترابها من أو ابتعادها عن العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وذلك بسبب الحظر الذي تفرضه الحكومة الإثيوبية على مناطق القتال، إذ أعلن المتمرّدون في أوائل شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، عن اقترابهم من العاصمة، وأنهم على بعد حوالي 400 كم منها، وهو ما نفته الحكومة المركزية، لكنّها سرعان ما أعلنت حالة الطوارئ، وطالبت سكان العاصمة بالاستعداد للدفاع عنها. كما يبدو من مطالبة الحكومات الأجنبية لرعاياها بترك البلاد أنّ الحرب تقترب من العاصمة وتنتشر.
ثانياً: لم تعد الحرب التي بدأت منذ عام تقريباً تقتصر على الصراع بين الحكومة المركزية وجبهة تحرير تيغراي، أو في إقليم تيغراي نفسه، حيث توسّعت لتشمل إقليمي عفر وأمهرا في شمال إثيوبيا، ودخلت الجبهة، أخيراً، في تحالفٍ مع حوالي عشر جماعات سياسية وعرقية أخرى، من بينها جماعات تمثل عرقية الأورومو، أكبر الجماعات العرقية في إثيوبيا (حوالي 40% من السكان)، والتي ينتمي إليها رئيس الوزراء، أبي أحمد، وسط أنباء عن اندلاع القتال في إقليم أوروميا، جنوب العاصمة.
يزيد من تعقيد الحرب ارتكاب مختلف أطرافها جرائم حربٍ مؤسفةٍ في حق الطرف الآخر
ثالثاً: يعتمد رئيس الحكومة، أبي أحمد، في حربه منذ البداية على تحالف مع كل من إريتريا، والتي تجاور إقليم تيغراي من الشمال، وقوات من إقليم أمهرا، والذي يجاور تيغراي من الغرب، ويكنّ للإقليم عداءً تاريخياً، عدا عن أنّ ثمّة نزاعاً على مناطق في غرب تيغراي أعاد إقليم أمهرا احتلالها خلال الحرب الدائرة. وهذا يعني أنّ الحرب توسعت أفقياً منذ البداية، وأنّها لم تكن بين الحكومة المركزية وواحدٍ من أقاليم البلاد، أو بينها وبين جماعة متمرّدة، وهي جبهة تحرير تيغراي، بل توسعت وتكاد تصل إلى حرب أهلية تبتلع أعداداً أكبر من أقاليم إثيوبيا العشرة وعرقياتها الثمانين.
رابعاً: يزيد من تعقيد الحرب ارتكاب مختلف أطرافها جرائم حربٍ مؤسفةٍ في حق الطرف الآخر، إذ تتحدّث التقارير الدولية عن فظاعاتٍ ارتكبتها القوات الإثيوبية والإريترية في حق شعب التيغراي، تشمل قتل الأبرياء واغتصاب النساء وقصف المدن الآهلة بالسكان، وتشريد حوالي مليوني شخص، وفرض حصار مستمر منذ شهور على الإقليم، جعل الغالبية العظمى من سكان الإقليم في حاجةٍ لمساعدات، بما في ذلك حوالي نصف مليون شخص، وربما أكثر، يواجهون خطر المجاعة.
كما ارتكبت قوات تيغراي جرائم حرب جسيمة في حق شعبي عفر وأمهرا، ولا تتردّد الحكومة المركزية في استخدام خطاب الكراهية بشكل مستمر ضد أقلية التيغراي. وتتحدّث وسائل الإعلام الدولية عن حملاتٍ أمنية مستمرّة، تشنها السلطات الإثيوبية في أديس أبابا للبحث عن أبناء أقلية التيغراي المقيمين فيها واعتقال الرجال منهم. وهذا يعني أنّ الجرائم التي ارتكبت من شأنها تعميق أمد الصراع وإطالته، حتى إن تم التوصل إلى حلّ عسكري وسياسي له، فلن تندمل الجراح الغائرة بسرعة أو سهولة.
تبدو عودة جبهة تحرير تيغراي إلى الحكم أمراً مرفوضاً من نسبة لا يستهان بها من أبناء الشعب الإثيوبي
خامساً: على الجانب العسكري، يبدو أنّ طرفي الصراع عاجزان عن إيجاد حلّ عسكري سريع له، فقد تلقت قوات الحكومة المركزية هزائم مفاجئة ومتتالية في المعارك، خصوصاً منذ يونيو/ حزيران الماضي، فبعد احتلالها السريع إقليم تيغراي وعاصمته ماكلا في بداية القتال، والذي نشب في أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أعلنت، بشكل مفاجئ، انسحابها من الإقليم في يونيو الماضي، بعدما استطاعت قوات جبهة تحرير تيغراي إعادة تنظيم صفوفها واستعادة توازنها. ويجب الإشارة هنا إلى أن الجبهة سيطرت على الحزب الحاكم في إثيوبيا منذ أوائل التسعينيات وحتى مجيء أبي أحمد إلى الحكم في عام 2018، وإلى أنّها تضم عدداً من أكبر القادة العسكريين الاثيوبيين في الحكومات السابقة، وأنّها جبهة على دراية جيدة بحروب العصابات والمتمرّدين. ويبدو أنّ أبي أحمد لم يقدّر قوتها بشكل جادّ، ولم يقدّر ضعف قواته وتفرقها، وأنّ الجرائم المستمرة والجسيمة التي ارتكبتها القوات الإثيوبية والإريترية في تيغراي دفعت أبناء الإقليم إلى التوحد خلف الجبهة، بعدما باتوا يشعرون بتهديد وجودي يتعرّضون له على أيدي القوات الحكومية الإثيوبية وحلفائها، وهو ما ساعد جبهة تحرير تيغراي في تحقيق الفوز تلو الآخر على قوات الحكومة الإثيوبية منذ يونيو الماضي، وعلى التوسع في إقليمي عفر وأمهرا واقترابها من العاصمة.
على الجانب الآخر، تبدو عودة جبهة تحرير تيغراي إلى الحكم أمراً مرفوضاً من نسبة لا يستهان بها من أبناء الشعب الإثيوبي، فالجبهة كانت في الحكم لحوالي لثلاثة عقود، وعرف عهدها باستبداد دفع الحزب الحاكم إلى البحث عن شخصيةٍ لا تنتمي للجبهة، والدفع بأبي أحمد، ضابط الجيش والاستخبارات السابق المنحدر من أبٍ من عرقية الأورومو وأم من إقليم أمهرا، إلى الحكم في 2018. وهذا يعني أنّ عودة الجبهة إلى الحكم سريعاً قد تكون أمراً غير مرحب به جماهيرياً. كما تعارض قوى دولية، كالولايات المتحدة، استيلاء جبهة تحرير تيغراي على العاصمة بالقوة. وليس واضحاً مدى قوة الجبهة العسكرية، وقدرتها على الاستمرار في القتال في ظل الحصار المفروض على إقليم تيغراي، كما لا تتضح أهدافها العسكرية، وإذا ما كنت تقاتل للاستيلاء على أديس أبابا، أم لرفع الحصار المفروض عن إقليم تيغراي، وإيصال المساعدات، وتحقيق قدر من الاستقلالية عن سلطة الحكومة المركزية من خلال المفاوضات.
لن يكون سهلاً على أبي أحمد الموافقة على مطالب الأقاليم بمزيد من الاستقلالية، فهذه الموافقة ستحوله إلى قائد أضعف الدولة الإثيوبية
سادساً وأخيراً، تبدو فرص إيجاد حلّ سياسي سريع صعبة ومعقدة أيضاً، فالحرب قامت بالأساس بسبب رفض أقلية التيغراي لسياسات أبي أحمد القمعية في حق بعض قادتها، ومحاولته فرض طرقٍ أكثر مركزية في الحكم، وهي الأسباب نفسها التي دفعت بعض الجماعات المنتمية لعرقية الأورومو وغيرها لمعارضة أبي أحمد، والتحالف مع جبهة تحرير تيغراي. وهذا يعني أنّ رفض عرقيات مختلفة الحكم المركزي وسلطة الحكومة المركزية من أهم أسباب الحرب، وأنّ المطالبة بالكونفدرالية وبحريات أكبر للأقاليم من المطالب الأساسية التي سوف يضعها المتمرّدون على طاولة المفاوضات، وأيّ تنازلات سوف تمنح لهم في هذا الخصوص سوف تطالب بها عرقيات وأقاليم أخرى، ما يعرّض سلطة الحكومة المركزية لمزيد من الضعف، ويعرّض الدولة الإثيوبية نفسها لخطر التفتت، كما يحذر بعضهم، خصوصا في ظل تشكيك تحليلات في مدى تماسك الهوية الوطنية الإثيوبية نفسها.
ولن يكون سهلاً على أبي أحمد الموافقة على مطالب الأقاليم بمزيد من الاستقلالية، فهذه الموافقة ستحوله إلى قائد أضعف الدولة الإثيوبية، بدلا من تقويتها. كما أن التوصل إلى أي اتفاق سياسي شامل يجب أن يتضمّن حل المشكلات البينية الموجودة بين الأقاليم نفسها، كالصراع بين التيغراي والأمهرا على أراضٍ في غرب تيغراي، وهو أمر لن يكون سهلا في أي حال.
من شأن كل هذه التعقيدات أن تصعب من الجهود الدولية الرامية إلى حل الصراع ومن إمكانية العثور على حل سريع، حيث تبدو المشكلة الإثيوبية شديدة التعقيد، حيث ترتبط بطبيعة الدولة الإثيوبية نفسها ومدى اتحاد العرقيات والأقاليم المكونة لها، ومدى تقارب تصوّراتهم لطبيعة الاتحاد السياسي الذي يجب أن يحكمهم، وهي جميعاً قضايا شديدة الصعوبة تحتاج لتفاوض طويل بعد وقف القتال.