في موت السياسة العربية
كانت جلسة نقاشية مسكونة بالحوار المعمّق الممتع مع المفكر المغربي، حسن أوريد، في معهد السياسة والمجتمع في عمّان. وبالرغم من أنّ المحاضرة كانت عن "الدين والسلطة والمجتمع في المغرب"، فإنّ النقاش الذي طغى بين المحاضر والنخبة الأردنية (في الحوارية) تمثل بأسئلة الحاضر والمستقبل ومرحلة ما بعد الربيع العربي، في ضوء ما طرحه أوريد من خياراتٍ محدودة متوقعة؛ إمّا السلطوية المتدثرة بالشعبوية أو الشعبوية السياسية، بعدما، من وجهة نظر الرجل، فشلت موجات التحوّل المتتالية التي مرّ بها العالم العربي؛ في بداية التسعينيات، ثم في الربيع العربي.
كان رأيي أنّ أوريد قفز إلى استنتاج قوي وصادم من دون الاستناد إلى منهجية علمية صلبة للوصول إلى هذه "الأطروحة"؛ بالرغم من ذلك، ما قدّمه بالفعل يمثّل استفزازاً إيجابياً وتحدّياً للنخب المثقفة والمفكرين العرب للاشتباك معه؛ فيما إذا كانت الشروط والحيثيات والمؤشّرات الراهنة في العالم العربي لا تخلق البيئة الحاضنة للديمقراطية، وإنما للسلطوية الجديدة أو الشعبوية السلطوية، وبالتالي، هنالك دواع حقيقية لمراجعة الواقع القائم من منظور تحليلي عميق، ثم الوصول إلى تقديم خياراتٍ استراتيجية واقعية للشعوب والمجتمعات العربية.
ربما تصطدم هذه الأطروحة مع مدارس الانتقال الديمقراطي، التي رفضت، بداية، وجود "شروط مسبقة" (اقتصادية كانت أو ثقافية أو مجتمعية) لإقامة النظام الديمقراطي في دولة ما، على النقيض من مدرسة "التحديث الديمقراطي" التي أصرّت على هذه الشروط. في المقابل، جعلت مدرسة الانتقال الديمقراطي (مثل أودونيل وشميتر وغيرهما) عملية الانتقال والتحوّل نحو الديمقراطي في مفتاح الخيارات الاستراتيجية للنخب السياسية؛ بخاصة التي في النظام ممن ترى أنّ أوان التغيير حان، وتدخل في مساوماتٍ وصفقاتٍ مع المعارضة للوصول إلى صيغة توافقية متدرّجة معتدلة.
تنضم مدرسة التحديث إلى مدرسة الانتقال في القول إنّ أفضل طريقة للتحول - الانتقال الديمقراطي هو سيناريو "الصفقة"، بين النخبة المنفتحة في النظام السياسي والمعتدلة في المعارضة، وأن تكون العملية انتقالية متدرّجة سلمية (كما حدث في بريطانياً كنموذج إرشادي لأغلب دراسات التحديث السياسي)، وأن يجري استيعاب القوى القديمة والجديدة في العملية الانتقالية، كي لا تكون هنالك ممانعة شديدة من الأولى وتعبئة ضد الثانية. وبالطبع، تتأثر العملية بعوامل أخرى تصعد أو تقل بحسب كل دولة ومجتمع، مثل العامل الخارجي، ودور المؤسّسة العسكرية.
الفرضية (التي تتأسس عليها نظرية الانتقال الديمقراطي) هنا ليست على إدراك مفاجئ من "النخبة الرسمية المنفتحة" يقوم على أهمية التغيير، وعدم إمكانية استمرار الوضع القائم، بل على أنّ هنالك ضغوطاً شديدة وقوية وأزمات داخلية تدفع هذه النخبة إلى تبنّي خيار استراتيجي مغاير للنخبة التقليدية في "السيستم"، وإلا فإنّ احتمالات (وسيناريوهات) الانهيار أو الفوضى أو الثورة كلها تبقى مطروحة وقائمة، فيما يرى أصحاب هذه النظرية أنّ الطريقة الناجعة والأكثر ضماناً وأماناً لانتقال متدرّج -مرحلي من مرحلة الإقلاع إلى تعزيز قواعد اللعبة الديمقراطية الجديدة هو السيناريو التفاوضي - الصفقة.
قبل أكثر من نصف قرن (1970) كان أحد علماء السياسة البارزين، وهو دانكاورت روستو، يكتب مقالاً في غاية الأهمية بعنوان "الانتقال الديمقراطي نحو نموذج ديناميكي" (في مجلة السياسة المقارنة)؛ ويعتبر، كما يقول عزمي بشارة في كتابه المرجعي "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، بمثابة مقدّمة لمدرسة الانتقال الديمقراطي، المهم أنّ روستو في الكتاب يركّز على مفهوم "الوحدة الوطنية" شرطاً رئيسياً - خلفية صلبة، لأي عملية انتقال ديمقراطي، فبدون وجود مشاعر قومية - وطنية للأغلبية العظمي من المواطنين بالقناعة في المجتمع السياسي الذي ينتمون إليه، فإنّ عملية الانتقال الديمقراطي ستتحوّل إلى نتائج مختلفة.
ثمّة مفاهيم مهمة ومقاربات جميلة قدّمها أوريد في نقاشه، تتمثّل بما أسماه "موت السياسة"، عبر تقزيم أطروحات النخب من سرديات وطنية وسياسية وفكرية إلى مجرّد برامج تكنوقراطية، وهو الأمر الذي نجده اليوم في أغلب الدول العربية، واختزال مطالب الناس بالخدمات والقضايا اليومية، التي على أهميتها لا يمكن فصلها عن السرديات الكبرى والرسائل السياسية والرمزية.