كورونا .. البقاء للأقوى
لا يبدو أن أزمة كورونا التي عصفت بالعالم خلال العام ونصف العام الماضيين في طريقها إلى النهاية قريبا، فعلى الرغم من استبشار البشرية بقرب الخلاص مع الإعلان عن اللقاحات الخاصة بالفيروس، إلا أن ظهور المتحوّرات أعاد إحياء القلق في النفوس، وأعاد بلدانا كثيرة إلى دائرة الإغلاق. غير أن هذا الإغلاق لا يمكن أن يستمر طويلاً، فالدول، الغنية والفقيرة، باتت تعيش تحت وطأة ضغط اقتصادي، لم تستطع معه تحمّل تكاليف العيش في ظل توقف دورة العمل، خصوصاً بالنسبة إلى دول أوروبية كثيرة تحمّلت حكوماتها عبء رواتب الموظفين والعاملين الذي أدّت الجائحة إلى دفعهم نحو دائرة البطالة.
أمام هذا الواقع الاقتصادي بشكل أساس، لم تعد حكوماتٌ كثيرة، الأوروبية تحديداً، ترى بداً من الفتح الكلي للبلاد، على الرغم من المخاطر التي قد تتأتى عن ذلك، ولا سيما في ظل انتشار المتحوّر "دلتا" من فيروس كورونا، وهو الأكثر شراسةً ويقاوم اللقاحات إلى حد كبير، وظهور متحوّر آخر في أميركا الجنوبية أطلق عليه اسم "لامبادا"، وهو أيضاً قادر على مكافحة اللقاحات بنسب تتراوح بين 30% و60%.
في بريطانيا، على سبيل المثال، لم تعد الحكومة تأبه لأعداد الإصابات الآخذة في الارتفاع، إذ تجاوزت الأعداد في الأيام الماضية عتبة خمسين ألف إصابة، وهو رقم مماثل لما كان عليه الوضع في يناير/ كانون الثاني الماضي، وهو الذي أدّى حينها إلى إعلان الإغلاق الثاني في بريطانيا. لكن هذا لن يحدث اليوم، بل على العكس فبريطانيا ماضية إلى الفتح الكلي للبلاد اعتباراً من يوم غد الاثنين 19 يوليو/ تموز. وأكثر من ذلك، توقع وزير الصحة البريطاني الجديد، ساجد جاويد، وصول الأرقام إلى مائة ألف يومياً، بعد رفع القيود التي كانت قائمة خلال مراحل الإغلاق المتفاوتة. وللمفارقة، أعلن أمس عن إصابة جاويد نفسه بالفيروس.
تتفاوت درجات هذا التوجه الانفتاحي بين دولة وأخرى، خصوصاً في أوروبا التي تخشى الأضرار على النظام الصحّي التي قد تنجم عن إعادة انتشار الوباء. غير أنها، في النهاية، ماضية بشكل كلي إلى فكرة التعايش مع هذا المرض، مثل غيره من الأمراض القاتلة. وهي أيضاً تسير نحو الاستراتيجية التي سبقتها إليها كثير مما يمكن تسميتها "دول العالم الثالث" التي عمدت إلى تجاهل الوباء وفتحت البلاد، حتى قبل أن تحصّن المواطنين باللقاحات. هي استراتيجية قائمة على فكرة "البقاء للأقوى"، وهو الأمر الذي يبدو أن الدول الأوروبية اليوم ستسير فيه، وإنْ ليس بالشكل ذاته الذي اعتمد في الدول العالمثالثية، وخصوصاً أن نسبة الأشخاص البالغين الملقحين في الدول الأوروبية يزيد في بعض الأماكن عن80%.
سيعود الحديث اليوم إلى البدايات الأولى للقاح، وتجربة مناعة القطيع مجدّداً، والتعامل مع كورونا على غرار الإنفلونزا الموسمية التي تقتل سنويا مئات الآلاف، على الرغم من أن هناك فوارق كبيرة بين الفيروسيْن، وخصوصاً لجهة الأعراض طويلة الأمد التي ترافق المصابين بفيروس كورونا، وتزيد من الضغط على الأنظمة الصحية، وتخصص "كورونا" في مهاجمة الأجهزة التنفسية. كما أن المقارنة بين الفيروسين لا تستقيم لجهة أعداد الوفيات، إذ أظهرت إحصائيةٌ طبيةٌ نشرتها مجلة "لانسيت" العام الماضي أن وفيات كورونا أعلى بثلاثة أضعاف عن مثيلاتها في الإنفلونزا الموسمية.
غير أن كل هذه المقارنات والتحذيرات التي صدرت عن علماء استشاريين تابعين لحكومات أوروبية كثيرة لن تثني هذه الحكومات عن الفتح الكلي قريباً، فنظرية "البقاء للأقوى" ستكون هي معيار التوجهات الحكومية في التعامل مع أزمة فيروس كورونا التي ستبقى معنا سنوات وسنوات.