كي لا نقتل أنفسنا
غادر رجل منزله شمالي إيطاليا، بعد شجار مع زوجته، وقرّر أن يتمشّى حتى يهدأ، فظل يمشي إلى أن مرّ أسبوع كامل على خروجه من البيت، قاطعا مسافة 450 كيلومترا متواصلة. لم يتوقف الرجل الغاضب عن المشي، إلّا بعد أن ألقت الشرطة القبض عليه، في السّاعة الثانية بعد منتصف الليل. بعد أسبوع من مغادرة الزّوج المشّاء، البالغ 48 عاماً، منزله، وإبلاغ زوجته عن اختفائه، وفيما كان متجها نحو الجنوب مارّا بمدينة بولونيا، أوقفته دورية شرطة، على ساحل البحر الأدرياتيكي، في جولة تفقدية لنطاق حظر التجول. رأت الدورية رجلاً متعبا يسير بمفرده، خارقا حظر التجول، وأخذته إلى المخفر مُنهية مسيرته الطويلة التي لا نعرف إن كانت احتجاجا، أو ضياعا، أو بالفعل محاولة لتهدئة شياطين الغضب. في تحقيق الشّرطة، قال الرجل إنّه لم يدرك أنه قطع كل هذه المسافة في أسبوع، وأنه لم يفكر سوى في المشي لإراحة ذهنه.
يمكن النّظر إلى المشي وسيلة لمقاومة الانتحار، سواء باختيار الموت، وهو خيار تُظهر نسب الانتحار الكبيرة حضوره القوي
ولم تضيّع وسائل الإعلام المحلية الفرصة لتطلق على الزوج المشّاء الهائم لقب "فورست غامب الإيطالي"، في إشارة إلى بطل فيلم "فورست غامب" الذي ركض طوال حياته. لم تكن نقطة التقاء فعل المشي المتواصل من دون تخطيط مسبق للرّجل مع "فورست غامب" الذي صار لصيقا بتوم هانكس الذي تقمّص دوره بشكل مذهل، هي وحدها ما أثار اهتمامي في هذه القصة، بل كان هذا الغضب الذي جعل الرّجل يمشي مئات الكيلومترات، ولا يهدأ، وهم حين ينصحوننا بالمشي، لعلاج التوتّر، يقصدون، بنصيحتهم هذه، مشي ساعة أو ساعتين. لكن هذا الرجل مشى أسبوعا ولم يهدأ. لا يُفيد المشي، إذن، إلّا لخدمة اللّياقة والصحة الجسدية. أما الرّوح والنفس إذا خربتا فلا مشي ولا قفز ولا عوم ولا تحليق يخفّف عنهما.
لعلّ الرجل مشى كل هذه المسافة لأنّه كان يهرب، وهذا أفضل تفسير. فحين تهرب، تواصلُ المشي فقط لأنّه كل ما تملك فعله، لمّا لا يكون هناك شيء خلفك تريد العودة إليه، ولا شيء أمامك تُسرع إليه. لتكون الطريق ملجأك وغايتك. على الرغم من أنّك تعرف أنه ليس كل سير هروبا، لكن لنقل إنّه قفز في المكان والزّمان لابتلاع العمر، على جرعات غير قاتلة.
يمكن النّظر إلى المشي وسيلة لمقاومة الانتحار، سواء باختيار الموت، وهو خيار تُظهر نسب الانتحار الكبيرة حضوره القوي. أو بالوقوع في اللّامبالاة القاتلة، كنهاية للحياة.
إذا كنت محبا للسفر، ليس عليك أن تكون غنيا ومتفرّغا لتسافر، وتضرب في الأرض. بل فقط أن يكون ظهرك واسعا، لتحمل ما عليك من عمل أو دراسة
ذكرتني القصة بنصائح السّفر والابتعاد والمشي، وسائل تفكير وتحفيز للإبداع. مع أن الكاتب لا يحتاج السّفر ليكتب أفضل، بل ليعيش أفضل. قد يؤدي السّفر إلى إغناء نظرته إلى الأمور، وقد يُغني كتابته، لكنّه ليس شرطا لذلك، فهناك كتّاب كبار لا يغادرون بيوتهم، ويكتفون بالكتابة عن الأشياء التي تدور في محيطهم الصّغير.. وتكون أهمّ من التي يكتبها مسافر عتيد.
في حوار تلفزيوني، قال الشاعر والكاتب الفرنسي كريستيان بوبان إنّه لا يغادر محيط بيته، لأنّه لا يشعر بأنه يحتاج لذلك ليكتب. إنه شخص لا يحب السّفر، وكاتب بخيال قوي، يؤمن بمقولة ماريو فارغاس يوسا "إذا لم يكن في حياتك ما يستحق الكتابة عنه، فالخلل فيك لا فيها".
لكن إذا كنت محبا للسفر، ليس عليك أن تكون غنيا ومتفرّغا لتسافر، وتضرب في الأرض. بل فقط أن يكون ظهرك واسعا، لتحمل ما عليك من عمل أو دراسة، وما معك من كتب وأغان، حيثما اشتهيت. أن تكون قادرا على حمل حياتك معك، بمشاقّها ومتعها، إلى مكان آخر.. هكذا تتمثّل الجانب المشرق لرواية ميلان كونديرا "الحياة في مكان آخر"، بأن تذهب حيث الحياة، إذا اختارت أن تكون الحياة بعيدة عنك، أو كنت ممن يحبّون عيش الحياة بكل وجوهها ومذاقاتها، ونبش أمكنتها السرّية الأعمق.
ما من شيءٍ مثل الأمكنة الجديدة يبعث الروح وينعش الحياة، في عز التعب، وهاوية اليأس، ومدارج الأيام الصعبة
لهذا أجزم بأنّني شخص مختلف، بفضل السفر الذي كسر كثيرًا من الأوهام والحواجز، والذي جعلني أخرج من فخ انتظار الأشياء أن تُحدث بكامل بهجتها؛ فرؤية أماكن جديدة، وأناس مختلفين والاندماج السريع معهم من أول خطوة فوق أرضهم، ذلك كله يجعلك تنتقل بيُسر في رحلة الحياة الطويلة. وترى كل مكان بروح مفتوحة، تتقبله ليتقبلك. وما من شيءٍ مثل الأمكنة الجديدة يبعث الروح وينعش الحياة، في عز التعب، وهاوية اليأس، ومدارج الأيام الصعبة. أو يمكن أن تتخلّى عن كل شيء وتسافر، هذا يعني أن تعيش على ما تجود به الظروف، وقليل من يطيق هذا. إذ عليك أن تتعلم "فن التخلي"، بتعبير القاص السعودي عبد الله ناصر. حيث تسافر بزاد القلة، وهذا لم أتعلمه مطلقا، بل لطالما أثقلتني الحقائب، حتى صار السّفر الثقيل عبئا. وحينما أشاهد نساءً يسافرن في الأفلام بحقائب صغيرة، لكنهن لا يتوقفن عن تغيير ملابسهن في الرّحلة، أشتم سرّا المخرجين النصّابين، فلا أحد يسافر خفيفا، ويتمكّن من رفاهية تغيير الملابس، حسب الطقس والمزاج والمناسبة. والذي يبحث عن الخفّة يرتدي الشيء نفسه طوال اليوم، ويغيّره فقط لغسله، بطقم مثيل له، يتحمّل الحر والبرد، السفر والإقامة، الليل والنهار؛ صالح للمشي وللنزهات، وللقاء الأصدقاء في المقاهي والمطاعم.. هذا السّلوك الحميد لن أتعلمه أبدا، لأنني مغرمة بالملابس قدر غرامي بالسّفر، على الرغم من أنني تعلمت أن أعمل وأدرس في المطارات والقطارات والحدائق...
ماذا عن السفر والكتابة؟ في حوار لذيذ مع فارغاس يوسا، يسأله محاوره: أنت تسافر كثيرا، وتكتب أيضاً في الوقت نفسه؟ يجيبه: "أكتب في كل مكان، حتى عند السفر، أحافظ على حيوية مشاريعي .. إذ يُمكن أن تكون أوقات الاستراحة والانقطاعات قاتلة. أنا بحاجة لهذا النشاط، وإلا سأقتل نفسي".